٢٠ مايو ٢٠٠٧

أول من أخر
رواية

(1)
مع أنه ليس له ذنب في الصوت الذي أحدثه إطار سيارته ألا أنني كرهته و كرهت سيارته أيقظ الصوت المدوي هذا الإنسان أو بقايا الإنسان الملتفة ببقايا سجادة أو ربما كان لحاف في يوم من الأيام ينام بجوار بضاعته (مناديل ورقية و كبريت ) أمام محل الكشري الشهير بباب اللوق .
شعرت بالشماتة و أنا أراه يخرج من السيارة رافعا ياقة معطفه الطويل الفاشل في إخفاء هذا الكرش الضخم و نظرات الإشفاق على نفسه من هذا العناء المفاجئ تملأ عينيه المطلتان من خلف نظارة لم أشك لحظة في أن إطارها صنع من غير الذهب .
الشارع ليس به أحد سواي و بائع المناديل و السيارات المسرعة و حدث الانفجار بجواري عند مروري تماما بجانب بائع الجرائد النائم فرئيت نظراته الفزعة التي ذكرتني بنظرات أرنب ممسوك من أذنيه استعدادا للذبح ، فكرهت من أجله صاحب السيارة و كل أصحاب السيارات .
أما الذي حدث بعد ذلك فقد أرق كراهيتي و لم يتركها خالصة نقيه كما بدأت لم أكد أستمتع بها كما ينبغي أو أنسج في خيالي قصص عن الغنى و الفقير و الفجوات الاجتماعية و السعادة و الشقاء ، كنت أتوقع من بائع المناديل أن يسب صاحب السيارة أو يدعو الله أن يبيده و أمثاله من المزعجون أو يشير حتى بيديه إشارة تدل على بعض ما لاح في عينيه من غضب ، و لكنه للأسف هب واقفا و جرى نحو ذو الكرش الضخم (سحبت لقب صاحب السيارة) عارضا المساعدة يبدو حامدا الله على هذا الرزق الذي أتى له من حيث لا يعلم ، بدا صاحب الكرش الضخم القبيح سعيدة بهذه المساعدة فوضع يديه في جيوبه الدافئة تاركا الآخر يعمل و كلاهما سعيد سعادة بالغة ، كرهت الغنى و احتقرت الفقر .
و كنت سعيدا مع ذلك بهذا الموقف في جملته فقد تركت المنزل متمنيا قضاء الليلة في الشوارع ماشيا فكم أحب ليل الشتاء الهادئ الجميل و هاهو مشهد أنساني يحدث بجواري يترك لدى انطباعات و يغرقني في تفكير عميق و يوقظ أحاسيس متفاوتة بأعماقي .
عادة اكتسبتها أو أوحت لي بها أفكاري المجنونة أن أنزل إلى الشوارع ليلا أبحث عن شئ وهمي ، كم تضايق آمي تلك العادة و تخيفها لا تتصور أن يمشى أحد بمفرده في مدينة نائمة (رقيقة هي و حنونة آمي هذه ) و لكنى يا أماه لا أراها أبدا نائمة فمدينتي لا تنام ، كم أقابل في تلك الجولات الليلية و كم أشاهد و أتفرج و أخزن بعقلي لأفرغه على أوراقي البيضاء المخزنة في درج مكتبي و أرسله لآخرون ليرمونه في سلة المهملات بجوار مكاتبهم أنني أساهم يا أمي في تنمية و تطوير وظيفة الزبالين في مدينتي و لم أرجع مرة خاوياً كما خرجت .
كانت الساعة تقترب من الواحدة و النصف عندما وصلت إلى ميدان التحرير فكرت في عبور الميدان في اتجاه كوبري قصر النيل و لكن عدلت عن الفكرة فهناك لن أجد سوي شوارع مظلمة و عربات السائحين العرب و المصريين السكارى و رؤيتهم تستفزني و تثير بداخلي رغبة في المشاجرة و قد وعدت أمي أن أتجنب المشاجرات في جولاتي الليلية ، فعرجت فجأة يمينا وواصلت السير قاصدا ميدان رمسيس فهو لا ينام و ربما أجد مقهى هناك يمتلئ بأهل الجنوب القادمين من دول الخليج منتظرين قطارات الصباح التي تقف في قراهم و ربما نجوعهم و أمامهم حقائبهم الممتلئة و الشوق للأهل و فرحة العودة تطفو على أعينهم فوق عناء الرحلة الطويلة ، و نفاذ الصبر لرؤية الأهل يبدو واضحا فقد تكون تلك الليلة أصعب من سنوات صعيبة في الغربة و البلاد القاصية و ربما أسمع عبارات تعبر عن ذلك ، خلاص هانت ، كلها سواد الليل ، بس أنا لسه مشوار طويل لجنا(قنا بالصعيدي)، الصبر يا ولد العم ، و يبدو ولد العم كمن يبحث عن الصبر في الوجوه المحيطة أو ربما عن ما يضع فيه فائض الصبر عنده ، فوعائه الخاص قد امتلاء بالصبر و فاض منه الكثير ، مع ذلك لا يجرؤ أحدهم على حسم تردده و استدعاء سيارة مخصوصة اللهم إن كانوا أكثر من خمسة و ذاهبون لنفس البلدة حيث توزع أجرة السيارة على الجميع ، ما زالوا يعيشون أيام التقطير كما عاشوا بالغربة بعدها انفراجة عظيمة في قراهم تأتى على كل ما ادخروه ليرتحلوا مرة أخرى ، و هكذا .
الآن وضحت معالم جولتي لهذه الليلة سأذهب إلى مقهى بالذات يقصدونه لأن صاحبه يمكنهم من ركوب عربات القطارات و هي مازالت في مخزن السكة الحديد و بذلك يضمنون الحصول على أماكن للجلوس ووضع الحقائب ستكون رحلة مكررة و لكن لا مانع لدى حيث أحب مشهد الوداع بينهم و بين زملائهم من بحري و تلك الأحضان الحارة السعيدة الحزينة و ربما الدموع أيضا دموع رجال شاهدوا الأهوال و مع ذلك تنزل لوداع الأحباب غير خجلة سأراهم و هم يؤكدون عناوينهم لبعضهم البعض (تنزل المنيا تركب لتونة الجبل في تونة الجبل تسأل على عربيات عذبة خير الله و في العذبة تقول بس محمد أبن أبو سيف أوعى تنسى ) ويبدأ من يتقن الكتابة منهم في تدوين العنوانين و ربما أرقام التليفون أن وجدت كم أستمتع بمحاولة تخمين من سيفي بالوعد منهم و يذهب للزيارة أو يرسل خطاب ، سأشترى الجرائد جميعها لتكن وسيلتي في الهرب من نظراتهم أو الحديث معهم أريد سماعهم فقط ، استعدوا يا أهل الجنوب يا أطيب القلوب و أقساها و أقربها إلى قلبي قادم إليكم لأسود صفحاتي بحكاويكم و أقاويلكم لتذهب في قمامة من يظنون أنفسهم مهمين .

(2)
لا يوجد في الميدان على ما أتذكر بائعي جرائد في مثل هذه الساعة أحدهم يفرش عند المسجد الكبير و لكنه يذهب قبل الثانية عشرة خلال الشتاء و اليوم شتاء قارس لابد أنه ذهب من زمن ، أذكر أنه يوجد كشك داخل المحطة نفسها لا يغلق أبدا دخلت المحطة ربما أدخلها لأول مرة في مثل هذا الوقت مختلفة تماما لا أحد يجرى ليلحق بقطار كاد أن يغادر لا صياح باعة و لا صراخ أطفال لاتجد أمهاتهم مكان مناسب لإرضاعهم في الزحام و لا أصوات قطارات حتى ، مجرد مكان واسع جدا برح جميل و غامض و محبب للنفس شبه خالي من البشر إلا قليلون و قطار واحد لم أسمع صوته إلا بعد الاقتراب منه يبدو أنه على وشك القيام .
اشتريت الجرائد و كتاب أعجبني .. فكرت.. أين يذهب هذا القطار؟ .. تذكرت أن هناك قطار ليلي يسافر للإسكندرية يطلقون عليه قطار الصحافة لأنه يحمل الجرائد اليومية إلى المدن و المراكز التي يمر بها ، سألت الرجل ذو البذلة الزرقاء الواقف على مقدمة الرصيف حاولت أن تكون لهجتي و طريقة سؤالي كمن يعلم و يريد التأكد .
- مش ده برضه قطر أسكندرية ؟
- نعم ، درجة ثانية و ثالثة ، قالها و هو يومئ إلى دفتر التذاكر في يده
ظن الرجل أنى أريد السفر فعلا ماذا سيظن من شخص يدخل محطة قطار في مثل هذه الساعة احتمال البحث عن الأفكار أبعد ما يكون عن مخيلة الرجل ، السفر ، يا لها من فكرة ، لم لا ، كم أنت رائع يا حامل التذاكر ، لم أراها شتاء من قبل ، كم سمعت عن روعة المدينة في الشتاء هيا أذن ، إلى الإسكندرية لأعاين هذا الجمال الشتوي .
- تذكرة درجة ثانية لو سمحت .
قطع التذكرة بحركة رتيبة جدا و ناولها لي مع باقي الخمسة جنيهات ، كانت التذكرة أرخص مما توقعت ، لم ينفعل الرجل لمغامرتي بالطبع فما أدراه أنى على وشك مغامرة جديدة الآن لعله لم يفكر حتى في سبب سفري ، لأول مرة أبتعد عن المنزل في جولاتي الليلية أكثر مما أستطيع عودته سائرا على قدمي ، أما الآن فأنا على وشك السفر على وشك مغادرة المدينة الحبيبة ماذا سأجد و إلى متى أستطيع أن أظل مستيقظ .
- متى يصل القطار إلى الإسكندرية ؟ هكذا سألت
- ستة و نص ، سبعة .
الساعة الآن الثانية تقريبا أي حوالي أربعة ساعات و نصف ، ما المانع لم أكن أنوي الرجوع للمنزل قبل هذا الوقت ، و لكن مهلا ، عندما يحين وقت رجوعي للبيت سأكون في الإسكندرية متعب من السفر و من عدم النوم ، ثم هناك احتمال أن أصاب بحادث أو يسرقني أحدهم و لا أحد يعلم أين أنا ، راودتني تلك الأفكار و أنا بطريقي لعربات الدرجة الثانية مارة على عربات الدرجة الثالثة الرثة القبيحة ذات الكراسي أو ربما الدكك الخشبية ، طردت التردد من أفكاري و حسمت الأمر بأن قذفت بنفسي داخل القطار الضخم كما قذف يونس عليه السلام نفسه في جوف الحوت تاركا الأمر لله .

(3)
لم تكن عربات الدرجة الثانية أفضل حالا بكثير عن عربات الدرجة الثالثة فهمت معنى ما قاله لي حامل التذاكر (ما فيش في القطار ده ثانية فاخر) العربة غاية في القذارة كراسي منجدة و مغطاة بمشمع أخضر يبدو في الظلام داخل العربة أسود ، عموما لم أهتم ما يهمني هو الأفكار و الأفكار أجدها عندما أجد البشر و لكن هذه العربة ليس بها سوى رجل واحد نائم إذا جلست هنا ستكون الرحلة هباء ، فلأبحث عن أخرى ، ها هي ، تبدو مظلمة و لكنها مليئة بالبشر ضوء الرصيف يتسلل إلى الداخل ليظهر أشباحهم ، جنود و عمال المحطة يتجولون في العربة لا أدرى أن كانوا يفتشون القطار أم الركاب أنفسهم ، فهمت بمقارنة بسيطة بينها و بين العربة الأخرى سبب اختيار الأغلبية لهذه العربة حيث وجدت أن أغلب زجاج العربة سليم و موجود مكانه بعكس العربة الأخرى التي تتجول فيها الرياح طولا و عرضا ، أنه البرد أذن ما يخيف ركاب القطار (فهمت بعد تحرك القطار وذادت سرعته أهمية الزجاج أكثر) ، اخترت مقعدين شاغرين لم يرغب فيهما أحد السابقين نظرا لعدم توافر الزجاج في النافذة بينهما جلست على أحدهما ووضعت قدمي على الأخر في وضع مريح متجنبا آي نظرات توجه إلى و مرهفا سمعي لكل ما يقال و تظاهرت بقراءة الجريدة برغم الضوء الضعيف الآتي من الخارج يا له من جو غريب لم أعشه من قبل تلك الاستعدادات للرحلة الطويلة الشاقة توصيات لعامل البوفيه أو بائع الشاي فقط بعدم النوم (الجو برد يا عمنا أبقى لاغينى كل شوية) استعدادات لم أرى لها مثيل لبرد قادم و كأن الجليد سوف ينزل داخل القطار .
انتبهت لحركة فوق رأسي على الرف المخصص للحقائب أحدهم يقوم باستعدادات كبيرة ، كان جنديا ، خلع بدلته السوداء و فظهر تحتها كم هائل من الملابس الصوفية أكثر من سروال فوق بعضهم و أكثر من بلوفر كذلك و بالتأكيد يرتدى عدد من الفانلات التي لم أراها أرتدي جلباب صوفي واسع بدلا من البذلة الميري ، فوق الجلباب و ضع بالطو يبدو ثقيل جدا و خشن المظهر و غاية في القدم ابتسمت بداخلي فها أنا أرى رجل يرتدى ملابس لو خلعها فربما ملأ بها دولاب كامل ، بعد أن دثر رأسه بشال أبيض خفيف تلاه بشال خشن و ثقيل فوق طاقية صوف تصل إلى نهاية أذنيه رفع ياقة البالطو و بدأ يتحرك كالمومياء فرش بطانية على الرف ثم ثنى بدلته الميرى صانعا منها وسادة و تدثر ببطانية أخرى و فرد جسده على الرف و توقف بعد ذلك عن الحركة تماما حتى نسيته .

(4)
سخص أخر أحتل الرف المقابل و لكنه لم ينم بعد مع ذلك كان في صوته رنه كصوت من أستيقظ لتوه يتحدث مع أخر لا أستطيع تحديد مكانه مع سماعي لصوته بوضوح أغلب الظن كان في المقعد خلفي
- تعال هنا يا له لو الدنيا شيتيت هتغرج
- لا يا عم أنت عايزنى أجع تنفتح دماغى
- طب ما أنا أهو ، الطلبة هتصحيك من أول كفر الزيات عشان يجعدوا
- و ماله ده حتى بيبقى فيهم بنات حلوة ، يا عم خلينا نشوف
و مضى الحوار و كل منهما يتفاخر على الأخر بحسن اختياره لمكانه الذي سيقضى فيه الرحلة حتى فتر الحوار فسكتا أو ناما ، عدت إلى الجريدة أقرأها فعلا هذه المرة و لا أتظاهر فقد سأمت أحاديثهم أسرع مما توقعت فأغلبهم اعتادوا على السفر في مثل هذا الوقت ربما يوميا كما فهمت من كلامهم و أسئلتهم عن المتخلفين اليوم ، هم أذا مثلى عندما أركب الأتوبيس في ذهابي اليومي للجامعة لا يجدون آي أثاره و لا يشاركونني آي من الأحاسيس المتفاوتة بداخلي و لا تظهر بهجة السفر في عيون آي منهم .
صعدت امرأة مع ولد في بداية المراهقة ، أبنها على ما يظهر ، بحثت عن مكان و ما أن نظرت إلى المقعد أمامي حتى أنزلت قدمي و أسرعت بالمسح بيدي مكان موضع قدمي ( أل يعنى هو نظيف قوى) جلس الولد أمامي و المرآة بجانبه امرأة قروية بالتأكيد لا أحب تخيل مثلها تسكن المدينة (فمدينتي أسؤ من أن تسكنها مثلها)، الجلباب و الطرحة السوداء و الملامح الطيبة عينيها مائدة عامرة بالأمومة و الحنان ، الفتى متواضع المظهر ملابسه تبدو جديدة و لكنها من طراز قديم ، وجه إلى نظرات كراهية كلما التقت أعيننا أظنه نقى جدا، ما في صدره يظهر مباشرة على نظراته و تصرفاته ، مع ذلك حرت في سبب كراهيته تلك هل هو الحقد النمطي بين أبناء القرى و أبناء المدن و لكن ما أدراه أنني قاهري ، ربما تضايق أن يجلس مكان قدمي و لكنى مسحته له بيدي مجردة ، حسنا فلتكرهني أيها القروي التافه يا من تركت أمك تحمل الحقيبة الثقيلة على رأسها لتضع أنت يديك في جيوبك،فالتعلم أنى أكاد أحمل آمي نفسها إذا ظهر عليها الإرهاق (كم أكره تلك العادة في أهل قرى الدلتا يعاملوا المرأة كأنها حمارة تحمل أغراضهم ) سأضع الآن قدما فوق أخرى حتى أزيد ما تكنه لي من كراهية .

(5)
أخرجت المرآة كيسا ، شممت رائحة يوسفي واضحة أعطت واحدة لأبنها تناولها بدون حتى أن يوجه لها كلمة ، ثم أخرجت أخرى ، ذهلت حقا و يدها تمتد بها نحوى كان يجب أن أتوقع مثل هذا التصرف و لكن لم يخطر ببالي لذا كانت دهشتي عظيمة ، نظرت لها بفزع على ما أظن .
- أتفضل يا بنى
- شكرا يا حجة
كيف أستطيع الرفض مع تلك العبارة و الطريقة التي قيلت بها ، بدت كمن تخشى أن أرفض ، فكيف لي أن أتمنع حتى كما علمتني آمي و أنا صغير و نبهت على إلا أخذ شيء بدون إلحاح من معطيه ، لعنت نفسي لعدم الالتزام بتعليمات أمي فربما تكون أعطتني حرجا أو حتى لتحمى ولدها من نظر الآخرين فيما يأكل ، و لكن يكفى أنني لم أكسف تلك السيدة الطيبة فلا داعي للتأنيب لقد أخذت ما قدمته لي و أنتهي الأمر ، سأكلها بتمهل شديد حتى ينتهى الكيس و لا تقدم لي أخرى .
بدء القطار في التحرك حدثت حركة غير عادية بين الركاب برغم أنهم جميعا جالسون و لا يوجد آي مودعين ، نظرت من النافذة أحب حركة البداية الناعمة للقطارات حيث أتخيل أن مكاني ثابت و كل الأشياء في الخارج تتحرك المحطة بالكامل تتحرك إلى الداخل الرصيف و الأعمدة الحديدية كل شئ ، فجاءة ظهر على الرصيف ما أرق خيالي ، شاب أنيق جدا ووسيم أيضا جالس على الأرض ينتحب بشدة تصورت أن نفسه ستخرج من عينيه مع الدموع من شدة النحيب ، ياله من منظر، فالأنزل و أضحى بالرحلة لأعرف السبب ، تبا ما هذه الحقارة ، فاليكن سبب نزولي هو مواساته و ربما مساعدته أن استطعت ، تراجعت عن النزول فقد عقدت العزم على إكمال المغامرة و أضفت لغز الشاب الباكي في ذاكرتي للغز بائع المناديل و ذو الكرش القبيح لأفكر فيهما فيما بعد ، يا ليلتي المميزة ماذا تدخرين لي في جعبتك السحرية؟ .

(6)
ها هو القطار يسرع و يعلو صوته لم أتصور أنه سيكون مزعج هكذا أو أن البرد القادم من النافذة سيكون قاسيا هكذا ليتني لم أجلس في هذا المكان ، مشكلتي آنستني مؤقتا الشاب الباكي ، ها أنا أترك القاهرة و لا أمل في العودة قبل عصر اليوم التالي و لم أنم بالطبع و لا ينتظر أن أنام في القطار مع كل هذه الأصوات و هذا البرد القارس ، ثم ماذا سأفعل في الإسكندرية ؟ و أين أذهب هناك؟ ، سافرت إليها كثيرا مصطافا في رحلات ينظمها عمل أبى في كل مرة يأخذنا أتوبيس الرحلات من أمام عمل أبى بوسط القاهرة إلى السكن بالإسكندرية نعرف طريق أقرب شاطئ للسكن و نذهب إليه يوميا و ربما تجولنا ليلا في المناطق القريبة من السكن ، لا أتذكر أنني استخدمت المواصلات مرة في الإسكندرية و لا أعرف أحيائها سوى بالأسماء فقط التي أسمعها في الأفلام و ربما رأيت بعضها على لافتات عربات المشروع و الأتوبيسات هناك ، لو استخدمت التاكسي مثلا أين سأطلب منه أن يوصلني ؟ ربما أطلب منه أن يوصلني لحى بحري بينما أنا فعلا متواجد بهذا الحي ، آي ورطة .
كم أريد سؤال هذا الولد الفلاح عن سر نظرات الكراهية الموجهة إلى من عينيه (هل يظن أنى عشيق لأمه أبن الـ.......... هذا ) أخرجت سجائري فكرت أن أدعوه لواحدة لكن تراجعت يصغرني بخمسة سنوات على الأقل قد يكون فرقا قليلا و لكن في حالتنا فالفرق حوالي ربع عمري ربما أكثر من ثلث عمره هو .
كادت عيناي تخرج من محجريهما و قلبي يقفز من صدري عندما وقع نظري عليها مفاجأة كالصاعقة (شكرا يا ليلتي المثيرة المدهشة ، شكرا أيها القدر) فتاة وحدها في هذا القطار الفقير و في مثل هذه الساعة من الليل، جميلة بوجه عام لم أتبين الملامح بالتفصيل في ظلام العربة طويلة الشعر رشيقة ملابسها على قدر كبير من الموضة و لكن تبدو كمن أرتدها على عجل من أمرها كانت تبحث عن مكان تجلس فيه ، وقفت مترددة ثم جلست بجواري مواجهة المرآة الأم (شكرا مرة أخرى أيها القدر) ، تجولت بنظري الجميع ينظر إليها كشيء غير مألوف البعض أعتدل بجلسته ليتابعها العجوز الجالس خلف المرأة الأم و أبنها استدار برأسه تماما حتى أصبح منظره مضحكا و أخذ يتفحصها ، أيضا المقعدان بجانبنا أعتدل النائمان عليهما ليتفحصا تلك القادمة الغريبة ، بدأت أختلس النظرات ترتدى تقريبا مثلى حذاء رياضي مع جينز و جاكيت قصير لم أتبين بالطبع ما تحته .

(7)
تجنبت النظرات الفاحصة حتى تهدأ عاصفة الاستطلاع و تستقر هي آمنة في مقرها بجواري ( ما أسعدني) ، فها هي بجواري سأنظر بتمعن شديد فيما بعد فمازلت الرحلة طويلة و الجميلة بجانبي أنا و ليس غيري ، تشاغلت بالنظر من النافذة و تدخين سيجارتي و أن كنت متحفزا تماما ، هاهي الرحلة تتخذ مسار جديد و الليلة تتحول من مجرد جولة أقصى ما أتمناه فيها هو الإنصات لزبائن مقهى سهران ، هاهي الليلة تلقى على بفتاة شابة ربما تصغرني مسافرة وحدها في تلك الليلة الباردة و في مثل هذا القطار الفقير ، شغلتني تلك التساؤلات و الأحلام عن التفكير فيما يجب أن أفعله حتى أبدأ معها حوار أفهم منه شئ عنها ، فمرة أراها عاهرة تبحث عن صيد و جلست بجانب لأني الصيد المختار و مرة أراها فتاة هاربة من قسوة أهلها تبحث عن صدر حنون و بالطبع أنا هذا الصدر أو قاتلة مجنونة قتلت الكثيرين و تبحث عن فريسة جديدة و اختارت أخر فرائسها الذي سوف يعالجها من مرضها القاتل و يشفيها لتقع في حبه ( مفهوم طبعا من هو أخر فرائسها) .

(8)
و لكن هل أكتفي بالخيال ككل مرة تتاح لي فرصة التعرف بفتاة هل أنتظر أن تبدأ هي كعادتي ؟ ، كيف أتخلص من الحجر المربوط بلساني ؟ تذكرت فتاة أعجبتني من زميلات الجامعة شغلت تفكيري مدة طويلة لم أفعل شئ خلالها أكثر من النظر إلى عينيها و من مسافة كبيرة نظرات جامدة لا تحمل آي معنى لم أقدر حتى على تحويل تلك النظرات إلى نظرات حالمة محملة بالرسائل ، كانت دائما أواجهها بوجه من جليد و كأنني أريد إفزاعها ، كانت تبادلني النظرات و تبدو عليها الحيرة بينما يتصارع وحشان بداخلي ، و أحفز اللخمة و أقول لنفسي تحرك يا حمار ، ثم أتت الفرصة يوم جاء مجلسها بجانبي لا يفصلنا ألا عدة سنتيمترات بدت كمن تنتظر أن أبدأ بالكلام و كدت أضرب خجلي بالداخل و أصبت بألم في معدتي و لم أتحرك تشاغلت بأشياء كثيرة ثم فجأة بكثير من الخجل سألتني عن الساعة فأجبت باقتضاب شديد و ربما بشيء من القرف فعل جسدي ذلك ربما أخرجت صلف و عجرفة كقناع لخوفي و جبني العميقين بينما دقات قلبي تتسارع و وخذه تتزايد في قدمي ، لملمت أشيائي و هربت من جانبها و هي تنظر لي و عينيها تقول (أمال بقالك شهور بتبحلق فى ليه يا منيل) .

(9)
بعد ذلك لم أجرؤ حتى على النظر بوجه جامد ضاعت كما ضاعت قبلها كثيرات ، و لكن الآن الوضع مختلف أنا الآن في قلب مغامرة كبيرة أذن فأنا مغامر لأنطلق من هذا الأساس بنفس روح اللامبالاة التي أركبتني هذا القطار ، و لكن ما الداعي لسبق الأحداث لم أرى وجهها بوضوح حتى الآن رأيت فقط هيكل فتاة حتى رشقتها أو طولها أمر مشكوك فيه حتى الآن ، لنعاين أولا قبل بذل المجهود في تحريك اللخمة فربما لا تستحق أن أحركها من أجلها توقف القطار فوجدتها فرصة أن أستدير برأسي و أرى وجهها متصنعا النظر في النافذة المقابلة لرؤية المحطة كلها ، وفعلت ، أظن بدت حركة رأسي عصبية جدا و مضحكة و مع ذلك عدت بها دون أن أحصل على شئ يذكر فالعربة مظلمة تماما و تبينت أن القطار أيضا متوقف في مكان مظلم و ليس محطة و لا أحد يعرف لما توقف .
بدء بعض الرجال محاولات لإنارة عدة لمبات بالعربة مجموعة من معتادى السفر في هذا القطار يعرفون بعضهم جيدا و يعرفون الكمساري أيضا أغلبهم كبار السن ، انتخبوا أطولهم فصعد على مسند أول كرسي في العربة و مضى متنقلا على مساند الكراسي محركا جميع اللمبات عسى أن تضئ أحدهم ، كان طويلا فعلا شبه عملاق و بالفعل تمكن من إضاءة أربعة لمبات في الجزء الذي نجلس فيه و كنا في منتصف العربة تقريبا و لكنه أكتفي بذلك و لم يكمل و جلس مكانه و بدا كالمنتصر في معركة ما ، و لم ينسى أن يسب النائمين على الأرفف و أتهمهم بإفساد الإضاءة حتى يتمكنوا من النوم .

(10)
أعجبني الضوء رغم شحه و أعجبني أكثر أن محاولتي القادمة سيكللها النجاح و لكن لم أقدم عليها سريعا فشجاعتي قد استنفذت خلال المحاولة الأولى ، فتحت الجريدة على آي صفحة لم أهتم كالعادة بفتح صفحة الأدب أو الاقتصاد حتى أوحى لأحدهم بأهميتي ، كنت في الحقيقة لا أقرأ أصلا انشغلت بمراقبة نظرات الفتى القروي إليها بدا عليه و أمه الاهتمام بها منذ اللحظة الأولى ، ربما أكون قد توهمت الكثير بالتأكيد لست أنا سبب اختيارها لهذا المقعد و أنما السبب هو وجود المرآة الوحيدة في العربة به ، أخرجت المرأة كيسها مرة أخرى امتدت يدها للفتاة فتمنعت قليلا ( ما أعذب صوتها و هذا الرقى الجميل في لهجتها) ثم رضخت أمام إصرار المرأة أحسست بيد المرأة تمتد نحوى فتظاهرت أكثر بالانشغال بما أقرأ .
- يا أستاذ
أستدرت بحركة عصبية فعلا هذه المرة كمن فزعه أحدهم
- أتفضل
- أسف و الله يا حجة مش قادر
- تعدمني لو ما أخذتها دى حاجة بسيطة يا بنى
- .................
- و النبى يا بنى ما تكسف أيدى
أخذتها شاكرا
- يا خويا أحسن من السجاير اللي عمال تحرقها دى
لم أجد ما أقوله فابتسمت و لكن المرأة كانت متحفزة للحديث فيما يبدو ربما مثلى لمعرفة الفتاة أكثر و حل لغزها ، أصطادت طرف موضوع التدخين و بدئت تتكلم عن أضرار التدخين بسذاجة شديدة
- مش كده يا ختى
انتبهت جدا صوت القطار علا فلم أسمع ماذا قالت و أن بدت لي موافقة على كلام المرأة أجبت بعبرات محفوظة عن العادات السيئة و تمكنها من الإنسان ، تخيلت أن الفتى سينفجر من الغيظ ربما غير راضى عن طريقة أمه الساذجة في الكلام أو لأنها جعلت منى أنا موضوع الحديث و ليس هو قررت أن أرضيه قليلا
- ربما يكون أبنك مدخنا و أنت لا تعرفين ( قلتها للأم)
أبتسم الفتى واثقا بسعادة لمشاركته في الحديث و أعلن أنه لا يفكر أصلا في التدخين ثم أعاد كلام أمه بطريقة أكثر سذاجة و كان ينظر أو يبحلق في الفتاة بجواري مع نهاية كل جملة يقولها و كأنه يقيس تأثير كلماته عليها ، أذن فهناك غيري يدور في فلكها (و رأيتني أطيح به بيد واحدة و أعصر رقبته بقبضتي لأفوز بالجميلة فربما لا فارق في السن كبير بيني و بينه و لكن فرق الحجم الهائل سيحسم المعركة لصالحى بالتأكيد) تشعب الحديث و طال عن القطارات و الزراعة و وصول الجرائد للمدن و القرى النائية كان في الغالب أسئلة من جانبي و أجوبة من جانب الولد و أمه اشتركت معنا الفتاة بجمل قصيرة مختصرة و كانت المرأة تحدثها كل مرة لتشارك تلك المشاركة السريعة ، مع ذلك استمتعت بالحديث لمجرد أنها تسمعه فها هو خوفي و جبني و لخمتى يتضاءلوا و يظهر الشخص اللبق المتكلم المثقف الذي يعرف أكثر من الآخرين ، كان مجرد سمعها لي و مشاركتها المختصرة يدفعي للكلام أكثر و أكثر و لولها لكنت أنا المستمع .

(11)
حتى ذلك الحين لم أكن رأيت وجهها بعد قمت بعدة مناورات حتى أرى أكثر أسندت رأسي للمقعد حتى التصقت به و لكنها كانت في نفس الوضع فكان على أن أستدير حتى أراها و لم أفعل بالطبع طبيعي أن ينظر المرء إلى محدثه و مع ذلك كان حديثي كله موجه للمرأة و أبنها دونها هي ، كرهت الجبن و التردد و استسلمت لهما .
عندما سألتها المرأة إلى أين هي ذاهبة أجابت بكلمة واحدة مثلما أجبت أنا ( الإسكندرية) ، و كانت الأم قد أعلنت أنهما ذاهبان إلى كفر الزيات أذن سأقضي معها بعض الوقت منفردين بعد ذهابهما و قد عملت المرأة بالفعل على كسر حاجزي الجليدي بيني و بين الفتاة فالكلام قد بدء بالفعل ليت كفر الزيات هذه تكون قريبة و أبعد ما تكون عن الإسكندرية .

(12)
هاهي الفرصة هبطت من السماء ، طلبت الفتاة منى التنازل عن مكاني لتجلس قرب النافذة (تسمح أقعد جنب الشباك) قالتها برقة شديدة ، و لكن رقتها لبختنى فكان رد فعل الفتى أسرع أتخذ قراره حتى قبل أن أفكر بالرد و تنازل لها عن مجلسه أمامي ، مع ذلك قمت واقفا سامحا لها بالاختيار ، اختارت مجلسه هو و انتقلت إليه و جلس هو بجانبي ، أحسنت الاختيار بالتأكيد فأخيرا سأراها بوضوح ، ليست جميلة كما ظننت متوسطة الجمال و الطول ، شعرها ليس بسواد الليل و بشرتها ليست بيضاء جدا أيضا كل هذا كان من خيالي التعبان فقط ، مع ذلك ما المانع من التعرف عليها ؟ ، و جعل الرحلة مسلية أكثر ، فالحديث إلى فتاة ممتع حتى و أن كانت متوسطة الجمال ، و هاهي البداية الصعبة قد انتهت و أظن أنها أطمئنت إلى .
و لكن للأسف أصاب الفتور حديثنا و لم أستطيع فتح موضوعا جديدا فأنتهي الحديث مع دخول القطار محطته الأولي ، بدأت في حل الكلمات المتقاطعة بذهن مشتت تماما كل تفكيري كان في الطريقة التي أوصل بها حبل الحديث مرة أخرى كنت أختلس النظرات إليها من حين لأخر ، طلبت المرأة منى أن أوقظها و أبنها قبل كفر الزيات إذا غلبهم النوم ، أحتج الفتي و أعلن أنه لا ينام أبدا في المواصلات استأذنت هي في الجريدة ،
- تسمح الجرنال
- أقدر أحتفظ بصفحة الكلمات المتقاطعة .(قلتها مبتسمة ابتسامة عريضة ربما بلهاء )
- طبعا
فصلت الصفحة برشاقة و مددت يدي لها بباقة الجريدة أخذتها شاكرة ، هل هي مناورة منها لبدء حديث أنقطع أم أنه طلب عادي ؟ ، لم تزيد كلمة واحدة بعد شكرها لي ، أتى الكمساري و لم يحدث كما في الأفلام العربية أن أدفع لها ، بل كانت تحمل تذكرة في جيب الجاكت ، و لحظت للمرة الأولي أنها لا تحمل حقيبة يد مثل باقي الفتيات أو آي حقائب أخرى هل يكون سفرها مثلى بالصدفة هل هي باحثة عن الأفكار (فكرة مستبعدة بالنسبة لفتاة) فأغلب ظني أن الفتيات لا يذهبن أبعد من نافذة الغرفة للبحث عن الأفكار (هذا إذا بحثن أصلا) ، استغرقني التفكير مدة لا أقدر على تحديدها ، حتى انتبهت إلى صوت غريب ينبعث عن الفتي بجانبي ، نظرت فوجدته راح في نوم عميق جدا ، نوم له ضجيج غريب و مضحك كاد يطغى على صوت القطار ، و ملامح طفولته المحتضرة تظهر الآن بوضوح ، اختفت نظراته الحادة و محاولات إظهار الرجولة و ظهر الطفل البريء مجددا ، شعرت بالعطف عليه و ربما أحببته (كم أنت رائع أيها النوم ) ، حاولت تعديل وضع رأسه حتى يستريح أكثر قدر الإمكان ، نظرت إليها كانت منتبهة لتصرفي رأيتها تبتسم فابتسمت أيضا ، فضحكت هي ، جميلة بلا شك ، ظلمتها حين وصفتها بمتوسطة الجمال ، ملامحها غاية في الرقة و التناسق ، رأيتها أول مرة بعين الخيال و المرة الثانية بعين اللخمة ، و الآن أن لم أكن أحببتها فأنا أراها على حقيقتها ، أنثى رقيقة لها ابتسامة تذيب القلوب ، أما قلبي فأظن أنه تبخر تماما ، تبدو الآن ودودة و في نظراتها ما يشي برغبتها في الحديث ، ضغط هائل وقع على آلاف الأفكار لفتح موضوع للحديث و لا يوجد عبارات على لساني ، صوت يصرخ بداخلي (أتصرف يا حمار قبل أن تضيع الفرصة).
- أحيانا يكون المرء مضحك في نومه
- .........
أكتفت بالابتسام ، بداية غير موفقة ، اللعنة على لساني الثقيل ، ثم ما هذا الغباء ، آي عبارة تلك التي نطقت بها ؟ و ماذا أتوقع أن يكون الرد عليها ، كنت في غاية السخط على نفسي فالتزمت الصمت حتى تبدأ هي في الكلام ، عجبا لماذا توجه نظراتها نحو عيني ؟ تصرف لم أتوقعه ، حسنا فلتكن حرب أعين أيتها الغامضة ، فأنا المادة الخام للغموض ، لنرى من يضطرب أولا ، طبعا لا تعلمين كم أنا معتاد على هذه المعارك بالأعين ، ربما كان لساني ثقيل معكن ، و لكن الوجه الثلجي لم يهزم من قبل ، اتخذت وضعا أكثر راحة للاستمرار في المعركة أكبر وقت ، نعم هاهي رأسي مسندة إلى ظهر المقعد و يداي معقودتين فوق صدري ، لتواجهي قناع الثلج أن استطعت و لتنظري كما تشائين ، فعيناي الضيقتين أقوي أسلحتي ضدكن .

(13)
لم أتوقع تلك الهزيمة السريعة .. أشاحت بوجهها نحو النافذة بعد أن شدت ياقة معطفها للأعلى بحركة عصبية ، اقتربت بوجهها كثيرا ناحية الشيش حتى ترى من خلال القطعة المكسورة ، فقد طلبت المرأة إغلاقه قبل نومها ، حالي ليس أفضل كثيرا هزيمتها السريعة سخفت انتصاري ، مع ذلك لن أستسلم ، و لن أرجع إلى الجريدة
- هل تشاهدين شيء معين؟ (قلت لها محاولا أن أجعل صوتي الغليظ رقيقا)
- ماذا تقصد ؟
- الظلام يملأ الخارج فماذا ترين
- خيالات
محاورة جيدة بلا شك ، متعلمة و ربما مثقفة أيضا ، أجابتها تحمل لهجة المسلسلات المصرية ، ليكن ، و أن وصلنا لحوارات اللامعقول ، فليس أكثر من هذه الرحلة جنونا .
- الخيالات في الداخل و الخارج
- في الخارج موحية أكثر
- و في الداخل مسلية و مفيدة
- لا أفهم ...
- أقصد البشر في داخل القطار ، آدميون ، لكل منهم مقصد و قصة مختلفة ، تصرفاتهم تعكس بيئات و ثقافات متعددة ، كل واحد عالم كامل منفصل ، إلا ترين هذا
- و لكنهم نائمون ، لا أرى أحد مستيقظ سواك
- و هل أنا ممل؟
- ...... (ابتسمت بمرح شديد و شقاوة كأنها تقول بالتأكيد)
- لا داعي للإجابة ( قلتها ضاحكا)
ها هو حائط اللخمة يتهدم و الأحجار تنسلت من اللسان ، فلأنطلق كما لم أنطلق من قبل ، ابتسامتها تدفعني للحديث بشجاعة لم أعهدها من قبل .
- هل تعرفين كفر الزيات ؟
- لا
- ألم تسافري من قبل للإسكندرية ؟
- لا ، و أنت ؟
- سافرت كثيرا بالسيارة ، هذه هي المرة الأولى بالقطار
- سنتمكن من معرفتها على آي حال
لن أترك حيث السفر يمر هكذا ، و أن خفت أن ترد السؤال بسؤال ، عزمت أن أقول الحقيقة و ليكن ما يكون.
- أتقولين أن هذه أول مرة تذهبين إلى الإسكندرية؟
- نعم
- ظننت أنها موطنك .
- لماذا؟
- لاضطرارك السفر وحدك في هذا الوقت
- أهي موطنك ؟
- أسكن القاهرة ، حي الحلمية الجديدة
- و مع ذلك تسافر وحدك في هذا الوقت
- من الممكن أن يعتبر البعض سفري هذا جنونا
- لماذا ؟
- لأنني سأقطع أكثر من مائتي كيلومتر ثم أعود كل هذه المسافة بلا سبب أو هدف .. شيء غير معلوم قذف بي لهذا القطار ، ربما رغبة في تحدي المجهول
- ربما أنا مثلك
- أنت فتاة
- فتاة .....؟ قالتها بغضب
ظهر الغضب و الاحتجاج على وجهها ، هل أكون أمام أحد المدافعات عن تلك القضية الوهمية ، غبي أنا إذ لم أنتبه إلى ملابسها التي تعكس تشبه واضح بالرجال ، أذن تلك نظرتها للأمور .
- فليكن ، كنت صادقا معك و أخبرتك بسبب سفري الحقيقي ألا تعاملينني بالمثل .
- جئت خلفك
- ......................؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

(14)
قنبلة ألقيت على لم أكن بمستعد لها ، مررت بأعراض لم أعرفها من قبل ، صدمة زعر اجتاحتني ، كدت أحترق من ارتفاع حرارة جسدي ، ظننت أن النائمين سيستيقظون علي صوت دقات قلبي ، سلاسل حديدية شدت لساني ، أحسست بحرقة في عيناي من قطرات العرق المتسللة إليهما و طعمها المالح ملء فمي الفاغر ، لم تفلح محاولاتي في السيطرة علي نفسي ، قمت هاربا ، انطلقت مسرعا لا أعرف للأمام أم الخلف ،فى نهاية العربة وجدت باب صدئ و غرفة صغيرة مظلمة فدخلت ، عرفت من الرائحة أنها دورة المياه ،أغلقت الباب على نفسي و أسندت ظهري إليه و وقفت مكاني حتى اعتادت عيناي على الضوء الشحيح جدا المتسلسل من النافذة ، جففت عرقي عن وجهي و يداي ، أشعلت سيجارة ، فكرت أن أستسلم عند هذا الحد و أنتظر هنا حتى يتوقف القطار في المحطة التالية فأنزل تاركا القطار بمن فيه ، جريدتي و كتبي معها و المرأة و أبنها و جماعة معتادي ركوب قطار الصحافة و الجندي النائم على رف الحقائب .. أعود إلى بيتي لأقضى باقي الليل بين كتبي و أوراقي في دفء المنزل مع الشاي الساخن .
و لكن لما أقبل الإهانة ؟ ، لما أستسلم في معركة قد تكون أسخن المعارك التي خضتها ، نعم ، لم أمر بحدث مماثل و ربما لن يتكرر مرة أخرى ، استحضرت الندم الذي سأشعر به كلما تذكرتها سأعيش تلك الهزيمة مرات و مرات ، لا لن أترك القطار ، سأكمل الرحلة مهما كلفني الأمر ، لن أنتقل حتى إلى عربة أخرى ، بل سأتمها فى نفس العربة و نفس المقعد الذي اخترته في بداية الرحلة ، و على آى حال لا يموت أحد في تلك المعارك .
قمت بقياس كل شيء قبل خروجي ، حتى النقود في جيبي أحصيتها بصعوبة شديدة في الظلام ، تحسست ملابسي أكثر من مرة ، شممت رائحة أنفاسي ، و مررت يداي على شعري عدة مرات ، لمعت حذائي بمنديل ورقى ، أخذت نفسين متتاليين كأنني أهم بالغطس في الماء ، ثم خرجت ، اتجهت بخطى واسعة واثقة إلى مقعدي ، حاولت أن أمسح التعبير الغاضب عن وجهي و أتركه لا يحمل آي تعبير .
و حتى وقتنا هذا لا أعرف ما هو دافعي الحقيقي لاستكمال الرحلة ، هل هو التحدي حقا ، و رفض الهزيمة ؟ أم أنها تلك الرغبة التي تجتاح آي رجل في استكشاف غموض المرأة ؟ أم أنه مجرد الحرص الفطري لدي الرجال على فرص تكوين علاقات مع الجنس الأخر ؟ و لا أظن أنني سأتوصل في يوم للإجابة .

(15)
رأيتها واقفة في الممر بين المقاعد تنظر في اتجاه ذهابي و كأنها تنتظرني ، لم أندهش فما زلت متحفزا و مستعد لتحمل آي مفاجآت أخرى
- خفت ألا تعود
قالتها بنبرة مستكينة جدا ، هل هي مناورة أخرى ؟ لما لا تلقى ما في جعبتك دفعة واحدة ؟ لماذا لا تكون المبارزة الفاصلة الأن بينما أنا مستعد ، لما الإصرار على مباغتتي دائما ؟ ، ليكن ، لتمضى في حوارك بلهجة المسلسلات كما تريدين .
- هل ظننتني سأقفز من القطار مثلا ؟
- بل تمضى لعربة أخرى
- اخترت هذه العربة و هذا المقعد في القاهرة و سأغادرهما في الإسكندرية
- .............
نظرتها متحدية تحمل الكثير من الثقة ، شاهدت أو أحست بارتباكي بالتأكيد ، لعنت حساسية استشعار العواطف عند النساء ، لعلها نسيت هزيمتها في معركة العيون ، كنت نسيتها أيضا ، دفع تذكر المعركة في نفسي بشحنة من الثقة فنحن الآن متعادلان ، لا تظني أنك متقدمة علي ، لما لا تتكلمين الآن ؟ ، ماذا تنتظرين ؟ ، هل تريديني أن أبدأ أنا ، لا .. سأتجاهلها تماما .. لأتظاهر بالقراءة في كتابي .. لا لن أتظاهر سأستغرق في القراءة فعلا ، فتحت الكتاب .. إهداء .. المقدمة ..
- لم تكملي حديثك
- آي حديث ؟
- أخبرتني أنك جئت خلفي (قلتها بنفاذ صبر)
- و هل صدقت ذلك؟
اللعنة على المراوغة و المسلسلات ، و على من نادي بتعليم العقارب و تحريرهن و إطلاقهن علي عباد الله الهائمين فى الكون .
- لم أرى داعيا لعدم تصديقك
- بل صدقتني لترضى غرورك
قالتها بابتسامة غريبة لم أجد لها معنى
- لم أذكر ذلك بل أنت من قلتيها ، و أعترف أنني لا أجد في نفسي ما يدعو فتاة إلى ركوب المجهول خلفي
- لم أركب المجهول ، و أنما القطار (مازال وجهها يحمل نفس الابتسامة )
- القطار أو المجهول أنها مخاطرة على آي حال
لم تجيب ، وطالت فترة الصمت حتى كاد الدم يخرج من عيناي ، و نظراتها المرتبكة تهرب من نظراتي الغاضبة
- لما لا تتكلمي ؟
- ماذا أقول ؟
- الحقيقة .........
- عن آي شيء؟
- لا داعي للمراوغة ، بدئت شيئا فأتميه لا تتركيني هكذا ، تخلى للحظات عن غريزة العقرب تلك ، و كوني كما تحاولين أن تتظاهري
- ماذا تقصد ؟
- تقلدين الرجال ، تصرفي أذن مثل الرجال ، و اذكري الحقيقة
- و هل يفعل الرجال ذلك ؟ ... قالتها بسخرية شديدة
فقدت السيطرة تماما على نفسي ، أصبحت كبركان ثائر مستعد لاجتياح آي شيء أمامي و تحطيمه ، فشلت هي في إخفاء التهدج في صوتها و هي تصيح .
- ماذا ستفعل ؟
- سأحطم رأسك


(16)
خرج منها صوت أظنها أرادته ضحكة فخرج كأنه صراخ أو بكاء ، خانتها جراءتها تماما ، مع ذلك أشتد غيظي فقمت واقفا و هممت بالانقضاض عليها قائلا :
- أتظنني لا أستطيع ؟
- بل تستطيع
قالتها بصدق واضح و نبرة خوف و تسول في صوتها .. طعنتني مرة أخرى بسلاح مختلف (يا ويلنا من قوة ضعف النساء) ، فتحت صمام في نفسي ببراعة شديدة خرج منه الغضب و حل محله الرثاء لها و العطف عليها ، لو كان بيدي لأخذتها في أحضاني و قبلت رأسها معتذرا ، ارتميت على مقعدي مرتبك من النظرات الموجهة نحونا ، تستطلع ما يحدث ، وجهت ما بقي داخلي من ثورة نحوهم و بعثرت نظرات التهديد فلم يجرؤ أحدهم على التدخل و رجعوا للنوم أو الحديث ، لحسن الحظ لم تستيقظ المرأة أو أبنها فهما الوحيدين اللذين يعرفان أن الفتاة ليست برفقتي .
ما هذا الآن ؟ دموع تغطى وجهها بكاء صامت حزين جدا ، رفقا بي سيدتي ، قلبي يذوب ، لا أظن أنه سلاح جديد ، فقد استسلمت فعلا و هزمت و أنا سعيد ، إحساس بالشفقة عليها يملئني ، خفت من رد فعلها إذا رتبت علي كتفها أو لمست وجهها ، أذن فالكلمات هي المطلوبة ، أخرجت علبة لبان من جيبي و قدمتها لها مبتسما ابتسامة مشجعة ، أخذتها ، فقدمت لها منديل ورقى لتجفف دموعها .
- أرجوك سامحيني
- ..............
- أمي تقول لي دائما أنني أهوج و أرعن و لساني و يدي يسبقان تفكيري
- ............ (ابتسمت)
- و لكن ما هذا ؟ هل تصدقين أننا تقابلنا و تكلمنا ثم تشاجرنا و كاد الأمر يصل إلى التشابك بالأيدي ، و ربما كنت سأرمى عليك يمين الطلاق الآن ، و لم أعرف أسمك بعد
نظرت إلى بتعجب و كأنها انتبهت لشيء كان غائبا عن تفكيرها ، انتقلت ببطء من البكاء إلى الضحك ، ثم الضحك الشديد (ضحكتها رائعة ) ضحكت أنا أيضا ، مدت يدها لنصفق كفينا ، لمستها برفق شديد و مع ذلك أنتقل ليدي الإحساس بنعومة بشرتها .

(17)
توقفت فجأة على عادتي عندما أضحك أو أبتسم ، فقد مرنت نفسي ألا أمر بتلك المراحل ككل الناس و أنما يكون التوقف عن الضحك عندي حاد و مفاجئ ، لإحساسي بسخافة تلك المراحل ، لم يلفت هذا نظرها .
- أحمد
- مها
- أسمك جميل ، هل تعرفين معناه؟
- بالطبع أعرف ، لماذا لديك شك في معلوماتي ؟
- و الله لم أقصد ، أرجوك دعينا نجعل حوارنا هادئا بعض الوقت على الأقل
- .........
- هل انتبهت أن بنطلوني مماثل تماما لما ترتديه اللون و الماركة و الموديل .
أحمر وجهها و لم أتبين أن كانت حمرة الخجل أم الغيظ ، خفت أن تظن بي ظن سيئ فتشبيهي جاء في مكان خاطئ ، لو كان الجاكيت لكان الأمر أهون ، طالت فترة الصمت قليلا و أنا قلق و لكن منتظر ردها ،
- و هل لهذا معنى خاص لديك
قالتها بلهجة هادئة فيها بعض الغموض ، لم تغضب أذن ، لأنطلق بالكلمات المبهرة فقد جاء وقتها
- فقط أثار هذا خيالي ، تصوري معي زوج من الراقصين يرتدون ملابس متماثلة في كل شيء حتى غطاء الرأس ، يؤديان رقصة مجنونة على موسيقى صاخبة جدا في مكان منعزل جدا ، شاطئ على جزيرة مهجورة ، غابة مليئة بالوحوش ، مجاهل الجبال و الصحراء ، المهم عدم وجود للبشر حولهما كل شيء خارج عن القواعد و العادات و المألوف ، هما فقط من يضع قوانينهما الخاصة ، و محددات تصرفاتهما بعقليهما أو بجنونهما ، و حدهما مع دوي الموسيقى و جنون الرقص .. و الحب
لم ترد بدا عليها أنها تستعيد كلماتي في ذهنها مرة أخرى ، خفت أن تكون قد قرأت الرواية التي استعرت منها بعض جمل ، و لكن يبدو أن حديثي نجح في التأثير عليها فهي ليست غاصبة ، بل مبتسمة ابتسامة عذبة جميلة جدا ، و لكن خصلات شعرها الرائع الملعونة حجبت عنى عينيها فعجزت عن رؤيتهما برغم من أنني لم أتمنى النظر في عيني فتاة من قبل كما أتمنى النظر في عينيها الآن .
- هل ما زالت لديك الرغبة في إكمال حديثي
- آي حديث ؟
- لا تدعى أنك نسيت
- بل أتناسى ، صراحة لم تخفت رغبتي في سماعه بل ازدادت ، و لكن سأنساه إذا طلبت منى ذلك
أمسكت بيدها كتعبير عن صدقي و أنا أقول العبارة الأخيرة ، رفعت خصلات شعرها بيدها الأخرى و نظرت لي تلك النظرة التي لن أنساها ما حييت ، أردت أن أصرخ بقوة مصرحا لها و للعالم أجمع بحبي لها ، تركت يدها في يدي تتلامسان برفق شديد و اقتربت برأسها منى فاقتربت أيضا
- توقفت عندما قلت أنى جئت خلفك ، و كانت مفاجأة لك ظهر تأثيرها واضحا .
تركت يدها و أسندت ظهري للمقعد مرة أخرى
- ............
- لقد كنت صادقة ، و ليس لدي سبب للكذب عليك (صمتت فترة بدت طويلة فلم أستحثها ، و شحذت صبري حتى واصلت حديثها )
- رجعت للبيت مع أبي و أمي في الحادية عشرة ، كان لدي شعور بالضيق بلا سبب ، دخل والداي ليناما ، وقفت بالنافذة قبل أن أستبدل ملابسي ، كنت أستمتع بالبرد و برؤية المارة القلائل في الشارع .
- أين تسكنين ؟
- أخر شارع البستان ، نافذتي تطل علي ميدان التحرير و شارع البستان ، رأيتك فلفت نظري طريقتك في المشي ، كانت مشية هادئة منتظمة كأنك تتنزه و الكل يسرع لمأواه اتقاء للبرد الشديد ، كنت كأنك تسير في عالمك الخاص ، لم يظهر عليك أنك تأه أو سكران أو مجنون بل الكثير من الاتزان و الثقة بالنفس
- كل هذا في خطواتي
- و أكثر ، إحدى هوايتي هي النظر على المارة من نافذتي و دراسة خطواتهم ، تقدر تقول أنني متخصصة خطوات ، و أول ما يلفت نظري و كثيرات مثلى للرجل ما هو طريقته في المشي
- كنت أظن أنها مظاهر الثراء هى ما يلفت نظر النساء
- لن أعارضك ، و لكن مظاهر الثراء تعنى من تبحث عن زوج ، و أنا لم أكن أقف فى النافذة متطلعة إلى الشارع لأبحث عن زوجي المستقبلي سائرا في مثل هذه الساعة .
- ليتك تكملي حديثك
- و هل أنت متشوق لسماعه؟

(18)
بدئت تستفزني مرة أخرى ، متى تكف عن هذا كتمت غيظي قائلا
- نعم ، و أتوسل إليك أن تتميه
- ليكن ، شاهدتك تنعطف فجأة بعد أن كنت متجها فيما يبدو نحو كوبري قصر النيل ، غيرت اتجاهك بصورة قاطعة و كأنك عزمت أمرا ما ، فقررت أن أعرف سرك و إلى أين أنت ذاهب ؟ ، أخذت بعض النقود حتى أركب تاكسي إذا بعدت عن البيت كثيرا ، وضعت مفتاح المنزل في جيبي و أسرعت بالنزول ، أضطررك للعدو حتى أصل لمسافة قصيرة منك فقد كانت خطواتك أسرع مما ظننت فقطعت مسافة كبيرة خلال وقت نزولي
- ألم تخافي؟
- بالطبع كنت خائفة ، فهذه المرة الأولى التي أسير بها وحيدة في مثل هذا الوقت و لكنني احتميت بك
- ........
- سرت قريبة جدا منك ، خلفك تماما و كلما نظر إلى أحد المشاة أو أبطأ بجواري سائق سيارة وجهت نظري ناحيتك لأوحى إليهم أنى برفقتك
تذكرت إبطاء أكثر من سيارة بالقرب منى بينما أسير في شارع رمسيس
- و لجسدك الضخم مفعول ممتاز في أخافتهم
- لكنني لم أشعر بك
- هذا من حسن حظي ، فقد كنت تبدو منشغل الفكر جدا
- و ربما لسؤ حظي أنا
- كيف؟
- لو شعرت بك لما فكرت فى ركوب القطار
- ماذا كنت ستفعل ؟
- أظل سائرا لمدة طويلة حتى أصل لمكان منعزل تماما و أواجهك
- ماذا كنت ستظنني ؟
- بلا غضب أو زعل
- نعم
- فتاة ليل
- و لكن هل في مظهري ما يشي بذلك (قالتها بغضب شديد)
- وعدتني ألا تغضبي و لتعلمي أن في السلوك أحيانا ما يغنى عن المظهر
- و هل سلوكي يبدو كغانية (بغضب أشد)
- ماذا تتوقعين أن أظن حين أجد فتاة لا أعرفها تتبعني في هذا الوقت من الليل ، أظنها مخبر شرطة مثلا ، أو مذيعة تريد منى حديثا ؟
قلت كلماتي بتأنيب شديد و بصوت منفعل فظهر عليها الهدوء و رجعت بظهرها للمقعد و فعلت المثل .
- لم تقولي لي كيف ركبت القطار؟
- كما فعلت أنت
- ألم تترددي ؟
- ترددت بالتأكيد و لكن أحببت أن أكمل ما بدئت
- لعلك خفتي أن تعودي وحدك
- ربما ... لا.. لا بالتأكيد لم أخاف
أجد عقلي رافضا الكلام ، و لكن نفسي تأبى ألا أن تصدق كل حرف مما قالته ، ليس فى نبرات صوتها ما يشى بالكذب و كذلك معرفتها لخط سيرى قبل ركوب القطار يؤكد صدقها
- ما زلت تدرسين طبعا ؟
- الفرقة الثانية كلية الآداب قسم فرنسي
- آي جامعة ؟
- القاهرة
- أذن فنحن زملاء فأنا في كلية التجارة الفرقة الرابعة ، ربما نكون قد تلاقينا من قبل و أكثر من مرة أيضا فأنا أذهب كثيرا إلى الآداب
- لا أظن ، ربما لا تنتبه أنت لي ، و لكن كنت انتبهت لك بالتأكيد
- لماذا ؟
- يجذب نظري دائما العمالقة (قالتها ضاحكة )
لم أعرف أن كانت فعلا معجبة بحجمي أم تسخر منى ، و لكنى بلا شك معتاد من صغري على مثل هذه المزحات
- ليدك أصدقاء من كلية الآداب ؟
- كثيرون
- كثيرون أم كثيرات (قالتها بمرح خبيث)
- لا لا و الله لست من هذا النوع ، كل أصدقائي في الجامعة من الشباب فقط
- تعصب لجنسك؟
- لا بل تورط في وعد عند دخولي الجامعة بعدم مصادقة آي فتاة
- وعدت فتاة طبعا
- استنتاج ذكى جدا (قلتها ضاحكا)
- أذن فأنت الآن تخلف وعدك
- لم أقابلك في الجامعة بآي حال
- هل صاحبتك هذه ليست طالبة ؟ (ثمة نبرة غيرة كما هيئ لي في صوتها)
- كانت في الثانوي عند دخولي الجامعة
- و الآن في جامعة أخرى؟
- لا ، توفيت منذ عام و بضعة أشهر، قبل أن تصل للجامعة
- ...... تقصد افترقتما فماتت بالنسبة لك
- لا ماتت فعلا و ذهبت لربها
- .........
- ربما كان هذا هو دافع أقوى لتمسكي بعهدي لها
يعلم الله أنني لا أكذب عليها الآن ، فأن كنت قد خنت هذا العهد خلال حياة حبيبتي الأولى إلا أنني لم أخونه في موتها أبدا ، و لكن هل أخطأت بحديثي عن حبيبتي .

(19)
بدا عليها واضحا الاهتمام الذي ربما شابته بعض الغيرة و أن كنت لم أتأكد ، طلبت منى أن أروى لها حكايتي ، من هي حبيبتي و كيف توفيت ؟
كانت أبنة عمتي خطبتها و عمري أربعة سنوات و مازالت في رحم أمها ، لحبي الشديد لأمها ، تعجب الجميع عند ولادتها كيف عرفت أنها فتاة طلبوا منى وحدي أن أختار لها أسما و اخترت أسم "جميلة" و برغم امتعاض الجميع من الاسم ذو الموضة القديمة أطلقوه عليها صاغرين أمام تصميمي و ظنهم جميعا أنني في هذه السن من أصحاب الحظوة أم (المكشوف عنهم الحجاب كما يقولون) و ياليتني كنت ، و كان الاسم على مسمى بالفعل فما أن بدئت تتشكل ملامحها حتى تأكدت العائلة أننى بالفعل عارف بالأشياء و اكتسبت أهمية عظيمة في هذه السن المبكرة ، حتى أن أبي و بعض أصدقاءه كانوا يأخذون برأي في الصفقات التجارية و كنت أقول أمرا افعلوا أو لا تفعلوا بالرغم من أنني لم أكن أفهم عما يسألونني شيئا .أخذت على عاتقي برغم سني المبكرة الاهتمام بكل شيء في حياة "جميلة" كنت الأخ الأكبر لها و أقرب لها من الجميع نظرا لأن أخوتها جميعا يكبرونها بفارق سن كبير كانت أمها دائما تقول أنها جائت في الوقت الضائع و كانت تغضبني هذه العبارة لأنني لم أكن أفهمها ، فاجائت هي الجميع عندما نطقت أسمى قبل حتى أن تتعلم نداء أمها ، كانت تترك الجميع لتلبى ندائي أنا و كانوا يتندرون علينا و كثيرا ما صورونا معا متماسكي الأيدي كصور الزفاف ،

(يتبع)