٢١ ديسمبر ٢٠٠٩

(3)
صحا الطائر حيراناً يبث الليل أشجانا
ويجلو طلعة الصبح ليهدى الصبح ألحانا
فما كذب إيمانا ولا صدق برهانا
فهذا العالم الحيران ما ينفك حيرانا
نجيب سرور

دخل العسوقل الحي أو المدينة فجرا عند مدخل المدينة تناثر بعض أتباع جهاز البصاصين يتحركون حول الخط الأصفر بتثاقل الملل و الرغبة فى النوم ، نظر أحدهم للعسوقل نظرة مطولة كأنه يحفظ شكله بذاكرته حتى يتضمن تقريره دخول العسوقل ، يخيم صمت جميل على المساكن النظيفة الشوارع تبدو باهية كلوحة لفنان عاش عمره فى قصور الملوك ، حتى أفخم أحياء دولة الشنابطة كلها لا ترقى إلى هذا الجمال ، كم أنت عظيم أيها النمكي ؟ .
تذكر العسوقل مروره مع والده منذ عدة قرون بالحي الذى يقطنه حكام دولة الشنابطة ، كان نظيفاً و منسق و مرتب و هادئ و لكن فى الجو شيئ ثقيل على النفس لا يدخله أحدهم حتى ينمو فى قلبه أحساس بترقب خطر و أذى متربص له حتى أن أبه لم يكف عن ترديد (سلام قولا من رب رحيم ) طوال مرورهم بالحي ، يري الأن تفوق فى التنسيق و الترتيب و الأناقة و النظافة مع أحساس جميل بالأمن يغشى قلبه ، لم يقابل أحد منذ تجاوز الخط الأصفر حتى الأن و مع ذلك لم يشعر بالوحدة ليس لأنه مراقب كحى الحكام و لكنه أحساس بالونس كأن من يراقبه يفعل ليرعاه و ليس ليتصيد له خطأ ما أو شبه خطأ أو يتلككله ليؤذيه .
وصل إلى بيت قريبه كان الوقت مازال مبكرا جدا ، مع ذلك لم يخجل العسوقل من طرق باب قريبه فهم أقرب إلى الأصدقاء من الاقارب ، كما أن قريبه هذا يعيش وحيدا و طالما شاهدت شقته هذه سهرات حمراء لهما قبل ظهور النمكي و منع والد العسوقل له من الذهاب لشنباطوريا الجديدة
طرق طرقة واحدة ففتحت سريعا جارية سوداء لا يعرفها فنظرا إلى رقم الشقة و أسم قريبه على بابها لأنه ليتأكد أنه بيت قريبه .
- أسف جدا ، هل رادمخاط بالبيت ؟
- نعم ، أنت العسوقل عرفتك من صورك مع رادمخاط ، تفضل أنه مستيقظ
- أشكرك .......؟
- أنا نرجساية جاريته الجديدة
- تشرفنا
من الداخل جاءه صوت رادمخاط مرحبا ، ظهر رادمخاط طويلا فارع الطول رشيق الجسد و مشدود العود أسود البشرة وسيم الوجه مازال يطيل شعره ليغطي أثر عراك قديم فقد فيه جزء من أذنه اليسري كان يرتدي جلباب أبيض يصل لما بعد ركبتيه بقليل أبتسامة واسعة جميلة غطت وجهه عند ظهوره للعسوقل فتعانفا و ذهبت نرجساية لتعد الفطور جعل تبخترها ذاهبة العسوقل يحسد قريبه على هذه الجاربة الرشيقة .
- توقعت مجيئك فصحوت مبكرا (قال رادمخاط)
- كيف توقعت ؟
- هاتفنى والدك و أخبرتى قصة البحث عن الحكمة فتوقعت أن تبدء من هنا
- تقرأ أفكارى دائما يا أخى
- أنه طول المعاشرة أذا كان أحد يعرفك جيدا فهو أنا
- نعم ، و لكن قولى ما حكاية نرجساية هذه ؟
- تعرفت عليها فى بيت للمتعة ووافقت أن تكون لى وحدي حتى يقضى الله لنا بالفراق
- ولكن ألم يمنع النمكي الدعارة بالمدينة ؟
- (غاضبا) علاقتى بنرجساية لا تصف على أنا دعارة ، مازلت أرعن يا عسوقل رغم أتساع معارفك ، هذه أخرة المعرفة المكتبة ، لو عركت الحياة مثلى و عرفتها من الداخل و ليس عن طريق الكتب و الأنترنت لعرفت أن مثل هذه العلاقة ليست دعارة .
- (متهكماً) قولى يا عليم ببواطن أمور السفالة
- الدعارة هى ممارسة الجنس مع الرجال بدون تمييز مقابل المال.
- هذا التعريف القانونى للجريمة ، أتكلم عن مفهوم النكمى لها و هو الذى أعاد تفسير الكثير من الحقائق .
- حتى فكرتك عن النمكي سطحية ، لا تصدق كل ما كتب عنه ، النمكي يقدس الحريات ، وضع دستور للمدينة ( أنت حر ما لم تتعد على حريات الأخرين) ، قبل النمكي لم أكن أستطيع الأحتفاظ بمثل تلك الجارية .
- كيف ذلك ؟
- كان من حق آى كان من الجيران أن يتدخل فى حياتى ، بدوافع يغلفها الغيرة على شرف الحي أو النهي عن المنكر و باطنها الحقد من عدم القدرة على الفعل مثلي ، كنت عرضة فى لآى عيل سيس أو عائلة بيئة أو وكيل عسس لا يساوي درهم أن يجرسونى أنا و هى معاً
- أذن فأنت تزنى تحت حماية النمكي شخصيا .
- ها أنت تضبش فى الكلام مرة أخري ، لم أرك منذ قرون و بمجرد ألتقائنا نختلف و نكاد نتشاجر ، و حشتنى يا بن الصرمة.
- و أنت كمان يا قبيح اللسان .
جاءت نرجساية تحمل صينية الطعام بدلت ملابسها و تزينت زينة خفيفة محببة ، وضعت الطعام و دعتهما مبتسمة أبتسامة جميلة لامبالية بما حدث أو ما سيحدث بدت كمن يحب لحظته الراهنة و يكتفى من الحياة بذلك ، كانت الرائحة شهية و أقبل ثلاثتهم يأكلون بشهية بعدها جهزت نرجساية النرجيلة و الشاي ، قدم رادمخاط النرجيلة للعسوقل فرفضها ، بعد أن فهم أن الممنوع فى المدينة هو التجوال مسطولا و هم ينوي أن يتجول بها قليلا اليوم .
- قادم أنت أذن لمقابلة النمكي ؟ (سأل درامخاط)
- أتمنى ذلك
- كيف ستنجح فيما فشل فيه الجميع، أجهزة العسس و الـ CNN
- أعرف أن الجزيرة أيضا لم تحصل منه على حتى كلمة مكتوبة
- لماذا أذن سيظهر لك؟
- لأنى باحث عن الحكمة و ليس عن مال أو شهرة مثلهم .
- أنا أيضا حاولت معرفة من هو ، و لم أكن أبحث عن مال أو شهرة ، بل لم أكن حتى أبحث عن الحكمة .
- لماذا بحثت عنه أذن ؟
- لأقدم له أمتنانى على الحرية التى أعطاها لى ، و للحياة الكريمة التى قدمها لنا جميعا بلا مقابل .
- كل تلك القيود حرية .
- لم يضع لنا النمكي قيودا و أنما نظاما ، فلم نكن قبلها حتى نختار مواعيد نومنا ، نعم أذا أردت أن تنام و كان لك جار غرس الشيطان قرنه فى شرجه فقام يرقص من شدة أكلان الشرج رافعا صوت الموسيقى على أخره ، و بالطبع أن كان لهذا الجار قبيلة قوية من الشماميين و المسجلين خطر الذين كانوا ملء المدينة فعليك أن تنظم حياتك على مواعيد دخول قرن الشيطان فى شرجه .
- نعم فهمت ، و لكن ألا تعتبر الرغبة فى أيذاء الأخرين نوع من الحريات
- ها أنت تتفلسف كالعادة ، بالطبع لا ، و راجع رسائل السماء ، مطلق الحرية تلك التى تنبع من أطار تنظيمى و قواعد تسري على الجميع و عندما أقول الجميع فأنا أعنيها نعم يسقط معنى النظام و بالتالي جميع الحريات التى تنبثق منه عند وجود أستثناء واحد فقط ، بالطبع تضحك فكسر النظام فى شنباطوريا هو القاعدة و ليس الأستثناء .
- قولى كيف كان الحال بعد ظهور الأعلان الشهير عن وجود النمكي و سيطرته على المدينة .
عدل درامخاط من وضع جلوسه شأنه شأن من يستعد ليدلى ببيان طويل .
كان يوما ليس كمثله يوم صحوت مبكرا على أصوات كثيرة فى الشوارع الكل يزعق الجميع فى مشاجرة مرة واحدة كبف ذلك ، أحسست بشئ خشن ملامس لجلدي تحت أبطي فوجدت الورقة قرءتها و لم أفهمها أولا جيدا خرجت سريعا إلى النافذة كنت كمن يعيش فى حلم ما هذه الروعة و هذا الجمال كل شئ أية فى النظافة و الأناقة أختفت أكوام الزبالة و عشش الصفيص التى كان البعض يبنبها لأحتلال جزء من الشارع فقط لفرض سيطرة ما و أثبات فتوة ، الجميع يتصايحون و بعض جنود الشرطة يروحون و يجيئون بدون هدف ، نعم الكل يريد التشاجر و شيطان الشجار ذو المليون قرن يعمل كما لم يعمل من قبل ملاءت قرونه فتحات شرجهم جميعا ، بعضهم وقف فى الشارع عاريا كما ولدته أمه ممسكا بسيف أو سكين داعيا النمكي لعراك كالرجال ، أعرف أحد من فعلها أسمه زعتون لا يمكن أن يتشاجر خارج الشارع الذي يقطنه هو و الكثير من أفراد قبيلته مع ذلك دعى العسوقل لنزال كالرجال ، حرر العسكر الكثير من المحاضر و حصروا عددا هائلا من البلاغات ، جئ بالمعاول و الألات و فتحت الدكاكين مرة أخري ، بل أن البعض وقفوا بالشارع يغنون و يرقصون و يلعبون الكرة متربصين لظهور النمكي بالأسلحة .
أنه الغباء المعتاد أو قل العادة القبيحة للشنابطة بعدم أستخدام عقولهم ، لم أفهم حينها كيف ظنوا أن من فعل كل ذلك فى ليلة واحدة أو جزء من ليلة سيظهر لهم ليتشاجر مثلهم ، كيف ظنوا أن مواجهة مثلة تكون بالأسلحة و بالتهديد بالسلطة ( فعلتها جارتى القصيرة الشرشوحة التى يعمل زوجها حوزياً عند أحد أصحاب الحظوة من حاشية أحد الأمراء ) ، قليلا جدا هم من أعملوا عقولهم فأغلقوا منازلهم على أنفسهم ، أما أصحاب الدكاكين و المحال فثلاثة أو أربعة فقط هم من أعملوا عقولهم و ذهبوا لمشاهدة الدكاكين الجديدة و لكن سيرا على الأقدام فوسيلة المواصلات الكهربائية التى أنشئها النمكي دمرت تماما فى ذروة غضب القوم ، أما السلطة فأعتبرت أنشاء الملاعب فى منطقة و الدكاكين فى أخري و تلك الأراضى كانت بالفعل مباعة لعلية القوم من الشنابطة أصحاب المؤخرات السمينة ، فجئ بالمارد الميكانيكى لتدميرها و قبل قدوم الليل كانت قد عادت كما كانت و خُصص لحراستها عدد غفير من الجنود و الآلة العسكرية ، و لكنهم نسوا أنهم داخل الخط الأصفر .
هكذا مضى اليوم الأول من المهلة ، و فى اليوم الثانى عاد كل شيء كما كان حتى أكوام القمامة التى يحتاج تكوينها لأسابيع عادت و كأنهم جاءوا بها من أحياء أخري ظننت أن الأمر كان حلما و لكن أحاديث القوم من حولى عند نزولى نفت ذلك ، الجميع يتحدث عن مواقفهم البطولية فى مواجهة الغزو السليمانى النمكي و كأنهم واجهوه بالفعل هذا يحكى عن تأجيره للدي جي بدون مناسبة و تركه ينهق فى الشارع طوال الليل و أخر يحكى عن أمره لأولاده أن يسهروا للعب الكرة بالشارع حتى الصباح ، و أخر يروى كيف تخلص من قمامته التى تحتوى فضلات أدمية من نافذة مسكنه و يتفاخر بجعل رائحة الشارع أسوء من المراحيض حيث غطت رائحة خراءهم على رائحة أشجار الزهور التى زرعها النمكي ، و هكذا ........... ، كان الجميع يتفاخر بأفظع الأفعال و مستمعيه يستحسنون ما فعل و لم يذكر أحدهم اليوم التالى بعد أنتهاء المهلة .
كنت حريصا مثل الجميع ألا أنام فى هذا اليوم و لكن شيء ما ربما فى الجو نفسه أنام الجميع حتى العسكر المرابطين عند منطقة الدكاكين و منطقة الملاعب الكل نام و صحوت مرة أخري على نفس الصياح ووجدت ورقة جديدة فى نفس المكان تحت أبطئ ملاصقة لجلدي كان نصها
( من سليمان النمكي إلى أهالي الحي
الساعة تنتهى المهلة و يصبح عقاب المخالف لما جاء برسالتى الأولى قائما .... أنتهى)
خرجت للنافذة مسرعا عاد كل شئ للروعة و الأناقة و النظافة مرة أخري الكثير من الناس فى الشارع كلما رفع أحدهم صوته مهددا سقط ميتا فى الحال نعم مات الكثير من أهالي المنطقة فى هذا اليوم على عكس ما كُتب و نُشر بل أنى رأيت بعينى أحدهم أمسك بمعول ليعيد فتح دكانه و ما كاد يرفعه و قبل أن يلامس الحائط أنفصلت يده من الكتف و سقطت أمامه على الأرض ممسكة بالمعول و نزف حتى الموت خرجت مئات الجنازات و كان خروجها هادئا على غير العادة فالنساء خافت الصياح حيث أن من كانت تصيح خلف جنازة كانت تخرج محمولة معها .
قاطعه العسوقل قائلا :
- مهلا ألا يجعل هذا من سليمان النمكي قاتلا
- و هل من ينفذ أحكام الأعدام قاتلا
- الأمر مختلف
- أفترض أنك جندي على الحدود تقف بالقرب من لافتة تحذر الناس خارج الحدود من أختراقها ، و جاء أحدهم و أخترق الحدود فأعملت به سيفك أيجعل منك ذلك قاتلا .
- فهمت ما ترمى إليه ، أنت تراه منفذ للقانون .
- ربما ، فالنكمل الحكاية .
أما عن الجنود فصحوا ليجدوا أنفسهم خارج الخط الأصفر مجردين من السلاح و الملابس و جئ بأضعافهم عددا و عدة فما يكاد أحدهم يتخطى الخط الأصفر حتى يموت فى الحال و تختفى أسلحته فوقفوا بالألاف خارج الخط الأصفر يتربصون بمن يدخل و يخرج لعدة أيام يسألون و يتستجوبون و يحتجزون و فجأة ذهبوا إلا بعض البصاصين ، يقال أن قائدهم تلاقى تهديد من النمكي شخصيا بتمديد الخط الأصفر إذا لم تنسحب القوات فلما ضرب القائد بالتهديد عرض الحائط أمتدت الحدود فى أتجاه القوات و أنتقل الخط الأصفر تحت عيون الجميع ووجد الكثير من الجند أنفسهم بداخله فرموا أسلحتهم و ملابسهم و خرجوا مسرعين و مات هذا القائد يومها .
و شيئاً فشيئاً أستقرت الأوضاع فى الحي ، رحل الكثير ممن لم يستطيعوا التعايش مع النظام الجديد ثم بعد عدة أشهر أصدر النمكي مرسوما أخر يمنع دخول المدينة على المرتشين و مستغلى السلطة فرحل عنها المئات من صغار موظفى الدولة و المهندسيين الأستشاريين و موظفى المشتريات بالشركات و بعدها بمدة أخري أصدر مرسوما أخر يمنع فيه النصابين و الغشاشين و من يرتزقون من الكذب و الخداع فرحل سائقى التاكسي و التجار و الكثير من أصحاب الورش الصغيرة و موظفى المبيعات ، و هكذا أصبحت المدينة شبه خالية و عرضت الكثير من العقارات للبيع فأنخفضت الأسعار إلى حد مقدرة الشرفاء فجائوا إلى المدينة لتمتلئ مرة أخري .
- و هل من جاءوا كانوا من مهن أخري
- لا بعضهم من نفس المهن و لكن مع معايير مختلفة للنزاهة
- و كيف يعرف النمكي هذا
- لا أدري و لكنه يعرف
- كم أشتاق إلى مقابلته ، قول لي ماذا وصلت فى بحثك عنه
- أثقل الحشيش رأسي فللننم قليلا حتى يذهب مفعوله ثم ننزل إلى المدينة لتشاهدها جيدا بينما أحكى لك عن بحثي
كانت ليلة العسوقل حافلة أيضا و شعر برغبة حقيقية فى النوم فذهب إلى منطقة الأحلام بينما كانت نرجساية تغلق النوافذ لتهيء لهما نوما هادئً