١٢ أبريل ٢٠١١

البروفة

كان عدة شباب من جيل أخر يجلسون فى حجرتي المستأجرة يحتسون الشراب ، فتيات و فتيان عجبت من سلوكهم الغريب ، ليس هذا سلوك أهل قريتى ؟ । جئت إلى القرية فى زيارة لأجترار ذكريات قديمة ، تركتها أول مرة طفلا منذ ما يزيد عن الثلاثون عاما لم أزرها ألا كمراهق متعجرف لا يعجبه شئ فى القرية الجميلة متكبر على أهلها بمدنيته كم كنت أمتلئ بالسفالة فى سن المراهقة ، ها أنا أعود مرة أخرى على أعتاب الكهولة لأستأجر حجرة فى بيت كان لى و لأجد جيلا لم يكن أحد منهم حتى فكرة وقت مغادرتى الأولى أو زيارتى الثانية ، نظرت إلى المخمورين متعجبا كانوا يضحكون سعداء بما يفعلون ، أفهمتنى أحداهن أنهم أعتادوا أن يفعلوا ذلك فى تلك الحجرة لأنها الوحيدة فى البيت الكبير الغير مشغولة ، أستنكرت فعلتهم ، و لم يكترثوا لأستنكارى ، بل طلبوا منى الأنضمام إليهم । دخلت (هـ . ص) و كانت تلعب دور أختى الكبري ، لعنت المخرج و موزع الأدوار فقد كنت أشتهيها ، ( لماذا لا تلعب دور زوجتى ؟ ) ، دخلت بصحبة خالتى ( ع . غ) كلتاهما فى ملابس منزلية غير عابئة فجميع من بالمنزل محارم أو أطفال وجدتانى على حالتى من الذهول فضحكتا كثيرا مع أنهما لم تشربا مع الشباب أيضا ، سألتهما فأجابتا بأنهما لا تشربان الخمر أطلاقا مثلي تماما . دخل ثلاثتنا إلى البلكونة القديمة قدم الجدات المليئة بزرع البلكونات المعتاد نعناع بلدي و ريحان و بعض الصبار الكل فى أصص فخارية قديمة جدا كنت أقول لجدتى أن تلك الأصص أكيد فرعونية فكانت تضحك و تقول لي أنه تم صنعها من التراب الناتج عن فحت النيل ( فحت = حفر ) ، أنتظمنا فى صف علي الأريكة الكبيرة المسندة للحائط فى البلكونة المنظر أمامنا لا يهمنا فى شئ أعيننا لا ترى أبعد من الأصص التى تملاء الأرض و سور البلكونة حيث أن الكاميرا لن تصل إلى ما خارج البلكونة كما أفهمنا المخرج ، كانت خالتى هى التى جاورتنى ألتصقت بى أكثر ثم أحتضنت رأسى على صدرها شرحت لي كيف أفتقدتنى طوال سنوات تغربي طلبت منى أن أقتنى بيتا فى القرية ليكون لى مكان دائم أجئ إليه مرة شهريا على الأقل ، أفهمتنى أن أقتلاعى من جذورى سيجعل عمرى على الأرض أقصر ، خالتى طيبة لا تعرف أن الأرض هى سجنى الذى أنتظر أن يأتينى منه أفراج ، وعدتها أن أفكر فيما أقترحت فوضعت رأسي على فخذها و أخذت تعبث فى منابت شعري كما كنت أحب فى طفولتى و مازلت أستمتع بحجرها الحنين و أصابعها تعبث فى رأسي حتى الأن ، كانت نسمات الوقت ( نصح المخرج بعدم تحديده ) تحوي برودة منعشة طلبت من أختى أن ترتدي شيئا ، فملابسها خفيفة و هى تمرض سريعا كما أعرف ، فأجابت بأنها سعيدة بتلك النسمات التى طالما أفتقدتها طوال سنوات بعدي عنهم فهذه هى المرة الأولى التى تجلس فى البلكونة منذ مغادرتى ، مضى حديث الذكريات عن الموتى من العائلة جدات كثيرات و أخوال و خالات حديث ضاحك أحيانا ملئ بالشجن غالبا . صارحتهما بأننى يجب أن أعود خلال ساعات ، بكت أختى بينما أنبتنى خالتى طلبت منى أن أبقى حتى تشبع منى ، لم أستطيع مصارحتهما بأن المرة القادمة ربما تكون بعد سنوات طوال و ربما ليس هناك مرة قادمة فغربتى التالية بعيدة بعدا سحيقا بينها و بين قريتى صحارى و محيطات لن تكون عدة محطات قطار هى التى تفصلنى ، ستكون طائرات و مطارات و تأشيرات و جوازات سفر و الاف من التعقيدات و العقد و الأحلام و التمنيات و الطموحات و الأحباطات ، يا خالتى العزيزة لن تمتد جذورى مرة أخري فقد قطعت تماما و ماتت بلا أمل فى العودة أو الحياة مرة أخرى . عدنا إلى الحجرة ، الشباب و الفتيات وصلوا إلى حالة بعيدة من السُكر ( الثُمالة ) كانت أحداهن ترقص على أغنية ( مافيش حاجة تيجي كده ) لنانسى عجرم ، طلبوا من خالتى مشاركتهم الرقص فأشترطت تغيير الأغنية إلى ( وسط الدايرة) لمحمد منير ، نحب أنا و هي و أختى تلك الأغنية كثيرا و قامت لترقص خالتى أمهر فى الرقص من الفتيات و أخف أيضا ، شاركتها و أختى رقصتها هى المحور و نحن الدائرون حولها كانت رقصتنا جميلة أعجبت الشباب فصفقوا أولا معنا ثم قاموا ليشاركونا فتركنا لهم مكان الرقص و جلسنا على طرف السرير سكاري أيضا من الموسيقى و الرقص . قالت أختى : كنا نرقص و نسمع لنسكر و نسعد ، أما هم فيسكرون ليرقصوا قلت أنا : لذلك لا أجد مكانى هنا ، أمل أن أجده هناك قالت خالتى : كنت أشعر أنك لن تعود مرة أخري أحتضنتى خالتى بقوة بينما ظلت أختى تصفق لرقص الشباب و لمحت دموع تنساب هادئة على وجهها .




فركش يا أساتذة