٢٨ نوفمبر ٢٠٠٧


تأملات العسوقل -2


كعادته دائما يأتي التنين الصيني في مقدمة السحب بجسده الثعباني الملتوي و جناحيه الصغيرين كم يعشق العسوقل هذا التنين ، كما يكره


التنين الأوروبي الضخم الصارم بجناحيه الكبيرين يطير واضعا يده علي قلبه أضعف مناطق جسده يتغذى على الفلاحين و الحطابين و أولادهم البسطاء و بعد طواف القرون يذهب مختارا كالجحش الأعمى ليهدي قلبه للفارس الذهبي لينال علامة النبل الأبدية هو و أسرته

.
أشم رائحة زفارة منذ هبوطنا هونج كونج -
تلك الرائحة فى كل الجزر-
- و ما هذا ؟
- ربما مهرجان و ما أدرانى
زوج من التنين الصيني يتصارعان على دقات الطبول صراع أشبه بالرقصة الرشيقة حولهم في دائرة كبيرة تقف فتيات جميلات يرتدين الثوب الصيني التقليدي الطويل ذو الشق الذي يبدأ من الذيل و ينتهي قرب الردفين ، ما أروعك أيها التنين ، أقتربت أحداهن بعد سماعه يتحدث مع زميله .
- عربي أنت
- نعم
- ما أسمك ؟
- العسوقل
- أنا أعرف عربي ، أتعلمه الأن حتى أعمل فى التسويق فى منطقة عربي ( قالتها و هى تبربش بعينيها الصغيرتين الجميلتين )
- بص يا عم الاحتلال الجديد .
- بس يا ريت يبقى كله حلو كده

المفترض أن يأتي بعد التنين الحصان الأبيض المجنح ، تخلف هذه المرة أو أرسل نائبه البحري ، حصان البحر ، بدا عملاقا أبيض و ليس أخضر مشوب بالحمرة كأحصنة راس محمد .
بعد انكسار المد يسرع العسوقل و زميليه إلى الدلاء المدفونة في الرمال ، يقومون بدفنها كفخاخ قبل قدوم الماء يغطيها البحر وقت المد ، تمتلئ بخيرات البحر ثم ينحسر الماء تاركا هدية غذائية للعسوقل و زميليه و قائدهم ردئ الصورة و الأخلاق ، يُخرجوا الدلاء من الرمال ، جمبري و أستكاوزا و أسماك يقومون بفرزها يحتفظ العسوقل دائما بدلو ملئ بالماء حتى يعود بالأسماك التي لا تؤكل للبحر ، ما فائدة قتل مثل تلك الكائنات الجميلة ، يجد فيما وجده سمكة حصان البحر، تبدو صغيرة في كفه الضخم لها لون أخضر جميل مشوب بحمرة زرقاء غاية في الروعة يتأملها تفتح فمها الصغير و تغلقه و تحرك زعنفتها الجانبية الحرة و تفرد زيلها ثم تبرمه في حلقات متداخلة
- أيه اللى معك ده
- حصان البحر هرجعه الميه
- لأ هاته
يعرف العسوقل ما سيفعله القائد رديء الصورة و الأخلاق بالحصان ، فهو بخيل و يحب أن يأتي بالهدايا المجانية فقط لخطيبته و ليس أفضل من هدايا البحر من أصداف و كائنات جميلة ، يربط السمكة من رأسها و ليس من زيلها حتى تقوم بطي زيلها كحلقات فيصبح شكلها أجمل تبدو السمكة كالمشنوق بلا ذنب ، يتركها في برد الليل معلقة لتجف تماما ، ثم يغطسها في الفلوت الذي يستولي عليه من ورشة الدهانات و يتركها تجف و يغطسها مرة أخري و يتركها تجف و هكذا حتى يغطيها بطبقة سميكة من الدهان الشفاف تبدو بعدها كشيء حزين ، عينها تجفان و يظهر مكانهما تجويفان باهتان يكلح لونها و تختفي الحمرة منها ليكون اللون صحرائي أصفر كلون النجيل الميت و لكنها هكذا ستصلح ميدالية لخطيبة سيادته .
- و حضرتك هتعمل بيها أيه ؟ ( محاولة أخيرة من العسوقل لإنقاذ حياة السمكة)
- و أنت مالك شوف شغلك و خلاص و سيب الجردل ده بقي باللى فيه أنا مش عايز حاجة ترجع للبحر
- يعنى أنت ترضى حد يعمل حضرتك ميدالية و يعلق فيك المفاتيح بتعته
- بقولك لايمها يا عسوقل و شوف اللى وراك من غير لاماضة خللي نهارك يعدي
- ما هو هيعدي هيعدي حد يقدر يمنعه ، المهم حضرتك هتأكل معانة شوربة سمك و لا أعملك سمك مقلي ، أصل الزيت شوية و مش هيقضينا كلنا .
- لأ شوية الزيت أعملي بيهم سمك مقلي و أنتم كلوا شوربة .
دوت ضحكة العسوقل و هو يتذكر استمتاع القائد رديء الصورة و الأخلاق بالسمك المقلي المتبل جيدا بالملح و الفلفل و الثوم و براز الفئران و طحين الصراصير الجافة .
دخلت زوجة العسوقل لبلكونة باب المشتل حاملة في أحدي يديها صينية عليها كوبين و في اليد الأخرى أخر السلالة العسوقلية يتلعبط على كتفها .
- بتضحك علي أيه ؟( سألت ضاحكة )
- حاجة افتكرتها
يبدو أنها تنوي مجالسته ، نظر للأعلى فقدت السحب أشكالها و عاد صوت الأغاني الناعق لدي أبن الجار (الوحيد الكريه الصايع) إلى أذني العسوقل و كان نعل الصندل ينهق بحمرة يا قوطة ، عندما تريد شيئا تبدأ حديثها معه بسؤاله عن أحوال العمل ، و أحوال أصدقائه ، يعرف ما تريده فبدء هو بفتح الموضوع حتى تتركه سريعا .
- الواد كان ناسي يروى النباتات
- صحيح أنت هتجيب النبتة اللى كلمتك عليها أمتى ؟
- الناس اللى بشتري منهم مش بيبيعوها
- طيب ما تشوف غيرهم .
- تانى ، من قبل أقسمت لك بالفانوس و بكشري أم محروس أن الموضوع مش فلوس و أن هذه النبتة لا تباع و لا تشتري ، أرسلت في طلبها إلى ألف مورد لم أترك رقم دليفري ألا و اتصلت به لم يقام معرض دولي أو محلي ألا و ذهبت ليس لها ألا مصدر واحد يذهب المرء أليه يتمشى بين ألاف النبتات ، النبتة هي من تختاره و ليس هو من يختارها ، عندما يمر بها صاحب النصيب يتغير لونها يعرف صاحب المكان أن أحدي نباتاته قد اختارت شخصا ما يجهزها و يعطيها له.
- طيب ما تروح تانى تجرب حظك .
- ذهبت آلاف المرات وحيدا و مع الأصدقاء أرتديت أفضل الحلل لم تختارنى أحداهن ، ذهبت بأسمال بالية لم يتغير الوضع ، وضعت العطور و أحيانا المساحيق علي وجهى ، ضحكت و بكيت ، ذهبت حزينا مكتئبا و ذهبت سعيدا فرحا ، ذهبت صباحا و مساء و ظهرا و فجرا ، لم أترك أحتمال واحد لأقتنائها لم أتطرق إليه .
- طيب اللى بتختارهم دول فيهم أيه يعنى مش فينا
- لم أترك هذا أيضا سألت و استقصيت عملت لمئات السنين كبوليس سري ، عرفت كل شيء عن المختارين ، و كانت النتيجة مذهلة ، لا يوجد آي مقاييس للاختيار تختار النبتات من كل الأعمار والأجناس و الأطوال و الأوزان و الألوان و المقاسات و الأديان و المذاهب الدينية و المهن ومن جميع الميول الجنسية و جميع الانتماءات الحزبية و الجماعات المحظورة و من مشجعي جميع الأندية اللهم باستثناء مشجعي نادي السكة الحديد ، و من أعضاء جميع الجمعيات و من أصحاب السوابق و أصحاب الصحيفة النظيفة ،تختار من السافرات و المحجبات و أشباه المحجبات و المختمرات و المنتقبات ، تختارمن الأغنياء و الفقراء ، من الأرستقراطيين و البسطاء ، من أولاد الأصول و أولاد الكلاب ، من ولاد السكان و ولاد البواب ، تختار من الملتحين بشنب و الملتحين بدون شنب و حليقي الوجوه ، تختار من العوانس و المتزوجات ، تختار من الصُلع و أصحاب الشعر ، و تختار من حاملي الرقم القومي و أصحاب البطاقات الورقية ، و من موظفى الحكومة و القطاع العام و القطاع الخاص و أصحاب الأعمال و العاطلين ،تختار من البورجوازيين و أصحاب الأفكار و المتخلفين عقليا ، باختصار من كل التصنيفات البشرية في الماضي و الحاضر و المستقبل حتى تقوم الساعة .
- طيب هو أنت بتشجع نادي السكة الحديد
- يا ستى ده مشجعينه أنقرضوا قبل الديناصورات
- أمال فيه أيه ؟ ليه مش عارفين نقتنيها
- يا ريت أعرف
- فالنذهب معك أنا و العسواقيل الصغار المرة القادمة
- برغم من عدم جدوى ذهابكم ، ألا أنى سأأخذكم حتى تتأكدي بنفسك و تكفى عن الإلحاح ، و لكن عليك أن تتأكدي من رعاية العسوقلان الصغيران لنبتات الموجودة فأنت تعرفين جيدا كم تعبت حتى أحضرتهم كادت نبتة الرضا أن تموت اليوم من الإهمال ، بعد أن ضحيت بمخلب العنقاء الموروث عن أسلافي حتى نتمكن من اقتنائها .
- حاضر .
خرجت فرجع العسوقل برأسه إلى الخلف متمنيا أن يرجع تشكل السحب مرة أخري .

( يتبع)
و ما زال الأهداء مستمرا للجحشان المذكوران اللى عارفين نفسهم كويس

٠٨ نوفمبر ٢٠٠٧


إهداء
إلى ألد أصدقائي (ن.ب) و (أ.ش) ردا علي اتهامكما لي أهدي إليكما هذا العمل


تأملات العسوقل


نافذة باب المشتل – يناير 2007
(1)
جلس العسوقل فوق الكف فاردا رجليه لترتاح قدميه فوق الديسك توب ، رد ظهره للخلف لمس قفاه الأصبع الأوسط للكف فشعر بدغدغة ما تسري في جسده كله و أرتاح لملمس الأصبع فوجه نظره لقطعة السماء المنحسرة بين أسطح أشباه المباني و التي يحلو له نسبها إلى أسمه فهي قطعة السماء العسوقلية ، لم يجرؤ على نسب القبة كلها إلى أسمه في الزمن التي كان يتأملها كاملة و يقضى لياليه متأملا نجومها لاعبا مع نيازكها حيث يتمدد علي ظهره في وادي المزرعية بين مدينتي الطور و شرم الشيخ عاش سنوات التيه الجميلة كتب كتابه علي الصحراء النظيفة و خانها ليلا مع القبة المتألقة و ماء المطر .
يرشف قليلا من مشروبه المتوهج و يمد طرف لفافته ليلامس النار الخضراء المرسومة على تي شيرت المُزة التي يستحضرها في خياله دائما ، يرجع مرة آخري برأسه يبدأ الأصبع الأوسط للكف بالتوغل في قفاه محاولا الوصول لبنات أفكار ، فينهره مهددا أياه بسلك الدش الممتد بلونه الأسود حتى الحدود المرئية للسماء العسوقلية ، كم يتمنى أن يبدء ظهور السحب المتشكلة ، لا يحب العسوقل السُحب المتراكمة التى تحيل الظهر مغرب و لكن تلك السحب المتفرقة الجميلة صاحبة الأشكال و الرسومات .
تحقق الأمنية و تبدء فى الظهور ، يحرك رأسه قليلا باحثا عن أفضل وضع لها حيث افتقدت الأصبع بعد أن أنتزعه من مكانه و شنقه بسلك الدش الأسود .
جاره اللعين لديه أبن وحيد و كريه و صايع ليس لديه ما يفعله سوي سماع الأغنيات بصوت عالي مزعج للجميع ، ينهق الصب ووفر الآن برائعة (خربانة) بدء التدهور بكراهية شعبان لإسرائيل و وصل للخربانة ، أخر مراحل الانهيار الغنائي في بيت العسوقل التي يسمح بها هي أغنية نار أو أفرض مثلا بصوت حكيم ، يرشف رشفات عصبية من مشروبه موجها نظرات كراهية شديدة لأبن الجار (الوحيد الكريه الصايع ) ، يفقد تماما تركيزه فى السُحب و عند مرور بائع أنابيب البوتجاز الملبوس بعفريت عازف الدرامز الزنجي والذي يتحكم به العفريت فيغرس الأرتعاشات فى شرجه لتتشنج يده الممسكة بالمفتاح محدثا هذا الصوت الرنان الكريه . .
ينادي العسوقل على أحد العسوقلين الصغيرين مذكرا إياه بمسئوليته عن ري نباتات المشتل الثلاثة نبتة الخوف و نبتة الحزن و نبتة الرضا ، يتجاهله العسوقل الصغير فيأتي هو بالرشاشات الثلاثة ليروى النباتات الثلاثة كل بما يخصها ، تبدو النباتات ممتنة ، يداعبه شئ من السكينة فيجلس مرة آخري على الكف ، و يبدأ بالفعل تشكل السحاب .
( يتبع )

٠٩ أغسطس ٢٠٠٧




كيس ملبس
قصة من مجموعة ع الطريق

أنطلق بسيارته الممعنة في القِدم خارجا من الضاحية التي يقطنها قاصدا الطريق الدائري ، قبل أن يصل لحدود الضاحية شاهدها تشير إليه نظر في المرآة علها تشير إلى ميكروباص يسير خلفه ، لم يجد غيره سائرا علي الطريق ، امرأة ترتدي السواد تحمل رضيعا و يمسك بجلبابها طفل أخر ، أعتاد أن يقل السائلين يعتبرها صدقة عن السيارة و يؤمن هو و كل من يري سيارته أنها لا تسير إلا ببركة من الله و استمرارها سائرة برغم قدمها و إهماله الشديد لها أكبر دليل على ذلك .
كانت شمس الصباح الساطعة تضرب عينيه بقوة لم يستطع معها تبين وجه المرأة جيدا ، توقف بعدها بخطوات قليلة شاهدا في المرأة أفضل قليلا مازالت كما تصورها ، سيدة غلبانة معها طفلين تحتاج إلى توصيلة ، انحنت قليلا عندما وصلت إلى نافذة السيارة و نظرت منها ، أندهش لكمية المساحيق على وجهها ، كاد أن يولى فرارا و لكن حرجه قيده .
- و حياة النبي تاخدنا معك لأول السريع .
- أتفضلي يا ست
همت بفتح الباب المجاور له لتجلس بجانبه ، رفض مشيرا علي حقيبته و الجاكت الذي تعود على وضعهما بجانبه فتح لهم بنفسه الباب الخلفي فدخلت و دخل طفليها أجلست الرضيع مع أخيه (أو الطفل الأخر) بجانبها.
- أن شالله يخليك
- شكرا
نظر إليها في المرآة لها ذلك الجمال البلدي الذي طالما أثار مخيلته أيام مراهقته الأولي ، بيضاء ذات عينين واسعتين عسليتين و فم صغير ذو شفتين غليظتين تبوحان بوعود حارة ، ووجه مستدير ،له ابتسامة أخاذة ليست بريئة و لا داعرة بل ابتسامة داعية ، نعم داعية إلى كل ما يتمناه رجل قارب الأربعين من عمره لم يغير طعم زوجته منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما ، لولا المساحيق و صبغة الأكسجين لكانت أية في الجمال ، في الخامسة و العشرين تكبر أو تقل عامين على أقصى تقدير .
- أصل أنا بشتغل هنا
- بتشتغلي أيه ؟
- يعنى هيكون أيه يا حسرة ، فى شقة عند واحد بجيله كل كام يوم أنضف له الشقة
- ربنا يكون فى عونك
- بجري على أيتام و الله ، منه لله طردنى
- ليه؟
- ناس سو ، جيرانه منهم لله ضايقوه ، علشان عازب و فيه واحدة بتطلع عنده
- كل واحد منه لله
ها هي الصورة تتضح ، عاهرة بلا شك ، المساحيق و الشعر المصبوغ لا يتناغمان مع شغالة ، طالما تمنى ذلك ، تمنى أن يحدث له ما يسمعه من أصدقائه بينما يقف أحدهم في شارع جامعة الدول أو شارع الميرغني أو الطيران فيفتح باب السيارة و تدخل أحداهن ، بعضهن لا يوفقن علي الجنس الكامل و لكنهن محترفات في أمتاع الرجال بطرق شتي ،أخبره صديقة الخبير بأن متعة الجنس مع المحترفات تكمن فى أن هدف الطرفان يكون أمتاع الرجل وحده فالعاهرة لا تبحث عن المتعة و أنما عن المال و لا تستمتع بالعملية و أن أظهرت عكس ذلك و تدرك أنه كلما ذاد استمتاع الزبون زادت فرصتها في طلب المزيد من المال ، سيارته القديمة لا تؤهله لذلك فمن تلك العاهرة التي ستبحث عن الأموال في سيارة شحات ، برغم استعداده للدفع ، و لكن كيف ينافس السيارات الأخرى الحديثة التي تغري لمعتها و تألقها فتيات الليل ، ها هي الفرصة تأتى حتى عنده ، كل جسده يناديه أن يقتنص الفرصة ، و لكن شيء بداخله يخونه و لا يستجيب للنداء ، ارتسمت تكشيرة الوقار علي وجهه أراد أن يمسحها بيديه لو أستطاع ، تلك التكشيرة اللعينة التي وقفت في طريقه مئات المرات ذلك الوجه الجليدي الذي لا ينم عن آي انفعال .
- أنت محامي ( قالتها مشيرا إلى حقيبته)
- لأ و الله ، مش محامي
العاهرة تفتح معك حوار يا لخمة ، تحرك يا بهيم ، هذا ما قاله لنفسه ، جسده ينادي جسد المرأة يكاد يشم رائحتها ، ما زالت التكشيرة على وجهه و أن كانت عينيه تختلسان النظر للمرآة فيجدها مصوبة عينيها في وجهه و ابتسامة الدعوة تزداد أشعاعا ، متى تنهار مقاومة البهيم الداخلي فيك يا رجل ، تمنى أن تنهار قبل فوات الفرصة ، هل هو الجُبن ؟ نعم لا داعي لادعاء العفة ، أنت داعر في أحلامك ،حتى ابنة جارك التي تناديك بعمو لم تسلم من أحلامك الداعرة و نظراتك المختلسة و لكنك تحب المحافظة على مظهر المحترم .
- و الله الراجل الندل منزلنى أنا و العيال على لحم بطننا (ها هي تشير إلى مبيتها عنده)
- معلش
بدئت ابتسامتها تخبو و يحل محلها فتور شيئا فشيئا ، ثم قامت بمحاولة أخيرة ، نظر خلال المرآة فوجدها تعبث بصدرها ، نعم فكت بعض الأزرار حتى ظهر منبت الثديين و الأخدود بين جبلي النور يطير العقل و يشي بنضارة الجسد مدت يدها بالداخل و أخرجت بعض النقود الكثير من الفكة جنيهات و أنصاف و أربع و ضعتهم في حجرهم و مضت ترتبهم تاركة الفتحة الكبيرة كنافذة الرحمة للجسد الجائع إلى الطعم الجديد ، أصبح لا يري الطريق أمامه ينظر بكليته في المرآة مستمتعا فمع أتساع الفتحة كادت الرؤية تصل إلى أقسى ما يمكن أن ُيشاهد ، عدلت المرأة من وضعها إذ استقامت بظهرها كثيرا لتتيح له رؤية واضحة لاحظ ذلك جيدا أدرك أنها تعرض بضاعتها و عليه أن يبدأ الشراء ، و لكن هيهات أن تتحرك اللخمة .
- معاك تجمدلي شوية الفكة دول ينوبك ثواب ، عشرين جنيه بس ( ها هي تقول السعر أيضا)
ما زال أمامه الكثير من الوقت على موعده كما أنه موعد مع أصدقاء لن يضايقهم انتظاره أو حتى اعتذاره عن الذهاب يستطيع المضي معها كيفما شاء و كأن القدر يهيئ له الوقوع في الخطيئة ، لن يقع في الزنا يكفيه ما سمعه من أصدقاءه و لم يجرؤ على طلب تجربته مع زوجته .
- لا و الله ما معييش فلوس خالص
نظرت بضيق و أغلقت علي بضاعتها و كأنها تاجر يغلق باب دكانه في وجه زبون مُفلس شعر بنظراتها تقهره و كأنها تقول له أمال عمال تبحلق ليه يا .......
- نزلنا هنا
قلتها بينما يمرون من التحويلة من طريق ضاحيته إلى الطريق الدائري ، منطقة مقفرة لا يمر بها سوي سيارات النقل
- هنا (قالها مندهشا)
- أيوه
- أنت مش قلت عايزة تنزلي الدائرى
- هنا كويس (قالتها متحدية)
وقف ، لم تشكره دعت أطفالها للنزول برطمت ببعض كلمات أن لهم رب ، و سوف يرزقهم .
مضى ببطء ناظرا في المرآة شاهدهم و صورتهم تتضاءل أمامه ، ها هو يترك هذا الجمال لسائق نقل جلف ذو رائحة نتنة يفعل به ما يشأ ، أليس أحق بها منه ، استدار بالسيارة عازما أن يقهر لخمته و جُبنه ، أقترب منها ، وجد الابتسامة الداعية على الوجه من جديد و لكن موجهة للأرض هذه المرة ، لم تتحرك فلف بالسيارة ليكون بابه المجاور أمامها تماما ، هم بفتح الباب ، وقعت عينيه علي شي ملون في التابلوه كيس ملئ بالملبس و البسكويت نسيه أطفاله بالسيارة ليلا ، مد يده بالكيس و فتح النافذة فقط .
- خدي أكلي ده للعيال لحد ما توصلي
- ربنا يخليك أنت راجل طيب و نضيف
شاهد ابتسامة مختلفة هذه المرة و أحس بما فيها من أمتنان و احترام ، مضى بالسيارة مسرعا هذه المرة و لم ينظر في المرآة ، توقف بعد مسافة طويلة على جانب الطريق أخذ في سب نفسه بأقذع الألفاظ ، لا يعرف لماذا ، هناك شيء بداخله يؤنبه تأنيبا شديدا لم يفهم تماما هل يؤنب نفسه علي شيء فكر فيه أم شيء فعله أم على فعل لم يفعله .

تمت
البدري
الطريق الدائري
أكتوبر 2004

٠٢ يوليو ٢٠٠٧


أكثر من أن يحدث في ليلة واحدة
قصة من مجموعة ع الطريق


يوم عمل مضني عاشه ، أبتسم لنفسه و هو يصعد سلالم بيته أخيرا سينعم بدفء المنزل كتفه يؤلمه قليلا فقد ترك نافذة السيارة مفتوحة طوال الطريق من وسط المدينة إلى الضاحية البعيدة التي يسكنها خاف أن ينام بينما السيارة سائرة فعلها مرة نتيجة الإرهاق الشديد بعدها لا يغلق النافذة المجاورة له أبدا مهما كانت البرودة ، دق جرس الباب كعادته لا يستخدم المفتاح يحب استقبال طفليه له و صياحهم ( بابا جه ، بابا جه) ، أنصت لم يسمع الصياح ، أبنته الكبرى سألت من خلف الباب ( مين ؟ ) رد عليها (أنا بابا) أفتحي .
قبل أبنته قائلا (أمال فين أخوكي ؟) ، نظرت الصغيرة في اتجاه غرفة الأولاد و لم ترد ، خرجت زوجته مصفرة الوجه ، تبدو باكية
-أنت فين من الصبح ، موبيلك لا يرد و تليفون الشركة لا يرد أيضا.
، تذكر سماعه لتليفون المكتب أكثر من مرة و لم يرد هو أو أحد من زميليه الساهرين معه ، نظر إلى الموبيل بيدو أن شحن البطارية قد نفذ ،
- فيه أيه ؟ (قالها غاضبا فلانت لهجة الزوجة كثيرا )
- -الولد تعبان من أول الليل ، جاتله حكاية ضيق التنفس دي تانى
- أديتيله البخاخة
- بصيت عليها لقيتها مدة صلاحيتها أنتهت ، أصله بقاله فترة كبيرة ماجتلوش
- الله يخرب بيتك يا شيخة ، هتفضلى طول عمرك مهملة ، أحنا مش جايبنها مخصوص علشان الطوارئ ، يعنى لازم تبصى عليها كل شوية ، أمال لو كنتى بتشتغلي ، كانوا العيال ماتوا ؟ .
دخل مسرعا ، هاله منظر أبنه أنسلت الدموع من عينيه و أرتعش جسده كله ، لا يتحمل آي مصاب في أطفاله قالت له أمه مرة (أجمد شوية أنت أبوهم مش أمهم ) ، أخذ بالطو الولد ووضعه عليه و ألبسه الحذاء تقدمت زوجته تساعده لما لحظت رعشة يديه الشديدة فنهرها ، وضع بطانية صغيرة على الولد و حمله
- خلينى أمشى يا بابا لحسن يقولو علي بيبي كلاس
- ما تخفش يا حبيبي ، ما فيش حد الناس كلها نايمة ، و حط وشك فى كتفى ماحدش هيعرف أنا شايل أيه
دفن الولد وجهه في كتف والده ، أطمئن قليلا أن أبنه ما زال واع للأمور و لم يدخل في المرحلة القلق .
بينما كان يدخل الولد السيارة سمع أبنته
- بابا أستنى ، ماما بتقول لك خذ الروشتات القديمة معك
- أحدفيها بسرعة ، و قولي لماما تحطلي الزفت فى الشاحن
كانت الساعة تجاوزت الحادية عشرة قليلا ، تجاوز موعد عيادة طبيب الأطفال الذى يتعاملون معه القريب من البيت ، فلا مفر من الذهاب إلى المستشفى ، ركب السيارة و نظرا مبتسما لولده و هو يربط له الحزام ، بدء ينسحب اللون الأزرق من بشرته بمجرد تعرضه للهواء النقى
- غطى رأسك كويس يا حبيبي علشان هنمشى بسرعة
- أحنا ريحين فين ؟
- عند الدكتور
- مش عاوز الدكتور اللى بيحط دبوس فى أيدي ( قالها باكيا)
- ما تخافش ، هأخليه يحطه فى أيدي أنا ( رد الأب باكيا أيضا).
وصل المستشفى بسرعة رغم بعدها عن المنزل فقد كان الطريق شبه خاليا ، صعد مسرعا حاملا الولد ، كالعادة أنتظر في الاستراحة بالرغم من عدم وجود مرضى غيرهما ، طمأنه الطبيب و وصف جلسة تنفس و حقنة و دواء ، رجاه أن يتغاضى عن الحقنة (هى دي اللى هتريحه ، أو تسيبه هنا علشان لو جاله ضيق تنفس تانى ) فوض أمره لله ، أنغرزت الأبرة فى يد الولد و قلب الأب ، ألمته جدا حتى أن الممرض سأله أن كان بخير لما وجده يضغط بيده علي صدره ، ظل الطفل يبكى و يضرب أبيه بيديه ( أنت مش طيب ، أنت قلتلى مافيش دبوس) و الأب يبكي بشدة ( حقك علي يا حبيبي تعال نشتري حاجة حلوة ) قال له الممرض ( مش كده يا بيه ، أمسك نفسك دي حاجة بسيطة ) .
عادا إلى البيت تحسنت حالة الولد كثيرا و بدا راغبا فى النوم ، أبتسم لزوجته
- حقك علي
- معلش أنا عارفة حالتك لما حد فينا بيتعب ، أخوك أتصل بيك على الموبيل
- عاوز أيه ؟
- مش عارفة بس عايزك تكلمه ضرورى ( طلب الرقم بينما مازال يخلع ملابسه )،
- أزيك يا أحمد
- الله يسلمك أزيك أنت
- تمام ، الحمد لله ، بس عبد الرحمن تعبان شوية
- ألف سلامة ليه ، بتروح لأبوك ؟
- و الله بقالى يجي أسبوعين ما بروحش ، مطحون فى الشغل
- حاول تروحله ، أنا أتصلت بيه أمبارح و كان شكله تعبان جدا
- ما هو اللى معاند و مش عايز يبيع شقته و يجي يأخد شقة جنبى
- المهم ، أنا عايز منك خدمة
- أؤمر
- تروح لأحمد نبيل ، عارف بيته ؟
- أيوه
- تروحله النهارده ضرورى علشان ليه عنده فلوس ، و هو مسافر دبي بكرة الصبح و هيرجع بعد كام شهر
- بس أنا لسه راجع من الشغل و مرهق أوي
- معلش ( قالها راجيا) أنت عارف المدام على وشك ولادة و أنا محتاج كل قرش
- حاضر ، هو عنده كام؟
- تلت تلاف و خمسميت جنيه
- و هيدفعهم كلهم أبن الـ .......... و الا هيقرفنى
- لأ و النبي ، أوعي تتعصب عليه ده أنا ملصمه ، و أنت لما تقوم فى شرك ربنا يستر
- يعنى أخد اللى يديهولى و أسكت
- أيوه بس عرفه أنه لسه عنده كذا
- ماشى
- و أنتم مش هتنزلوا من شرم بقى علشان الولادة
- يا عم المستشفى هنا أنضف من القاهرة ميت مرة
- الله ، طيب و أهل مراتك
- ينصرفوا ، أنا ما عنديش أجازات علشان أنزل ، اللى عايز يجيلنا أهلا و سهلا
- ماشى ، ربنا معاكم ، هبقي أبعتك الفلوس فى السوبر جيت ، بس مش قبل يوم الجمعة أو السبت
- لا بلاش السوبر جيت ، أعملي بيهم أيداع فى حسابي فى الـ سي أى بي
- و الله أحسن ده حتى جنب الشغل ، يبقى بكرة هأعملك الأيداع على طول ، خد بالك من مراتك و حاول تمشيها شوية فى الأيام الأخيرة دى بيبقي المشي مفيد
- حاضر ، يا الله ، لا أله الا الله
- محمد رسول الله
كانت زوجته قد جهزت المائدة أثناء مكالمته لأخيه ، نظر إلى الطعام و شم رائحته ، كان بالفعل جائع ، نسى في زحام العمل إن يأكل شئ طوال اليوم ، من الصباح على الإفطار البسيط الذي تعود عليه ، و ضع قطعة صغيرة من اللحم فيه فمه ، خلع جاكت البدلة و طلب من زوجته البالطو الثقيل .
- أنت نازل تانى
- أيوه مشوار صغير لأحمد
- ده أنت شكلك على الأخر
- معلش ، خمس دقائق
- طيب كل الأول و الأكل سخن
- لأ ، لو كلت هأتقل ، التليفون شحن
- شوية
- طب هاتيه
ذهب إلى مشوار إخيه كان لا يحب التعامل مع هذا المدعو أحمد نبيل ، برغم من معرفتهم الوطيدة الممتدة لأكثر من عقدين من الزمن ، فهو بطبعه لا يميل إلى من يتفاخر بنفسه و بأنجازاته دائما و كان يسميه أحمد قارون ، ألا أن خفة دم أحمد قارون كانت هي ما يخفف عنه وطأة التعامل معه ، وقف بسيارته أمام المنزل ، و طلب رقم أحمد نبيل ، مرة و مرتين و ثلاثة مرات و الجرس يستمر لأخره و لا مجيب ، قرر أن يحاول محاولة أخيرة قبل أن يذهب ، رد أخيرا صوته يبدو نائما
- مين ؟
- أنا ، عمرو البيومي، أزيك يا قارون
- أه ، هو أنت ، أيه يا عم أنا قعدت مستنيك من الصبح
- معلش كان عندي شغل
- أكيد ما هو الشغل عند الناس كده ، أحسن حاجة تشتغل عند نفسك
- أه
- فاكر أنا قلتلك كده من كام سنه ، كان زمانك دلوقتى عندك شركتك
- بقولك ايه يا عم قارون ، مش وقته و حياة أهلك ، فين فلوس الواد
- طب ما تطلع ، الجو برد مش هأقدر أنزلك
- ماشى يا بن .......
صعد إلى الدور الخامس ، تخدرت ركبيته بفعل الأرهاق و البرد ،( المصعد لا يعمل بعد الثانية عشر ) لافته معلقة على باب المصعد و موقعة من رئيس اتحاد المُلاك ، الله يخرب بيت الاتحاد علي بيت المُلاك
- وجد الباب مفتوح فتحة صغيرة و أحمد ينظر من الداخل
- أدخل بسرعة
- أيه خايف هواء الدفاية يخرج بره
- هو أنت لسانك ده كرباج ماسكه أعمي ، أدخل يا عم
أخرج مظروف من جيب الروب و ناوله له ، جلس و أخذ في العد ، عزم عليه أحمد بمشروب فرفض ، لأنه لا يستضاف عند يهودي .
- كده ناقص ألف جنيه
- يا عم أنا مفهم أحمد أخوك ، أبعتله أنت دول بس
- و الله أحمد ده غلبان أنه بيتعامل مع يهودي زيك ، أنت رايح دبي بجد و لا رايح زيارة لحائط المبكي
- و الله لولا أخوك كنت ( و جز علي شفتيه )
- أخوية برضه
- أيوه أخوك و طولك ووزنك طبعا
- (ضحكا عاليا ) يالله تروح و تيجى بالسلامة ، و ياريت ما تجيش خالص ، عشان مليتوا البلاد
- يا عم دي دبي ، يا رب أعرف أعيش هناك و أبقي أبن جزمة لو فكرت أرجع
عاد إلى منزله الإرهاق كاد أن يحنى ظهره ، صعد السلالم ببطء شديد يكاد يحمل قدمه بيده ما بين درجة و أخري، قبل أن تمتد يده للجرس ، سمع رنة تليفونه أخرجه من جيبه بيد و بالأخرى دق جرس باب منزله ، فتحت زوجته سريعا ، فقد كانت المسكينة تنتظره خلف الباب تجاهد النوم الذي يبعثه دفء المنزل.
- أيوه مين
- أنا أحسان النقراشى جاركم يا عمرو في عابدين ، أنت مش فاكرني
- أيوه طبعا ، أزيك يا عمو ، أنا أسف بس الصوت و النمرة غريبة علي ، أزي حضرتك و طنط ، و حازم و باسم و البنات ، و الله وحشتونى جدا .
كان يتكلم سريعا مداريا ارتباكه من هذه المكالمة الغريبة ، في مثل هذه الساعة المتأخرة ، نظر إلى الساعة كانت تقترب من الثانية صباحا ، شك أن موضوع المكالمة يتعلق بوالده و لكنه طرد الخاطر بعيدا .
- و الله يا بنى عندي أخبار مش كويسة
- خير يا عمو ( أيقن أن الأمر يتعلق بوالده)
- باباك ، وجدناه واقع أمام باب شقتنا في الدور الأرضي ، و فاقد الوعي
- أمتي حصل ده؟
- بعد العشاء ، و من ساعتها و أنا و أولادى بندور على نمرتك أو نمرة أخوك لحد ما لاقينها عند طنط أعتدال
- طيب شافه دكتور
- لأ يا بنى أحنا منتظرنكم ( قالها فيما يشبه التقريظ )
فهمت زوجته ما يحدث من سير المكالمة ، لم تسأله ، أسرعت إلى الطعام و صنعت شطيرة ليأكلها في الطريق ، رفض أخدها ، كان يقوم باستبدال الحذاء الجلدي بأخر مطاطي (كوتشى) فقد أحس بقدميه تتورمان ، وقفت أمام الباب بكوب عصير و استحلفته بالله أن يشربه قبل الذهاب ، شربه مسرعا .
- خدي بالك من عبد الرحمن ، و أقفلي الباب الحديد و نامي مع الولاد
- حاضر ، خد بالك أنت من الطريق ، خير أنشاء الله ، ما تشوقش بسرعة
- حاضر
مضت أفكاره متلاحقة كان الطريق طويلا و رغبته في الوصول جعلته أطول ، آلاف الأسئلة و الاحتمالات دارت بذهنه ، ماذا سيفعل إذا كان والده قد توفي ؟ ، ما عجز حتى عن التفكير فيه كيف سيخبر أخاه و أخواته البنات ، والده قد تجاوز السبعين ، فكر مئات المرات في اقتراب وفاته ، و لكن التفكير شيء و حدوث الواقعة شيء أخر ، أستيقظ من أفكاره علي صوت سيارة نقل كبيرة بجانبه ، كان السائق يشير إلي سيارته قائلا شيئا لم يسمعه ، تباطأ قليلا حتى بعُد سائق النقل ، مر تاكسي بجانبه و نفتح النافذة اليمين و صاح فيه ( الأنوار يا أستاذ) ، أنتبه أنه لم يضئ أنوار السيارة .
وصل أخيرا إلى البيت القديم ترك السيارة كيفما أتفق فلا داعي و لا وقت للركن جيدا فمن الذي سيذهب أو يجئ فى مثل هذه الساعة ، فتح باب في الدور الأرضي ، وضح جدا أنهم كانوا ينتظرونه ، دعاه الرجل للدخول وجد أبيه ممد على كنبة بالصالة مغطى بعباءته ، لا يحرك ساكنا ، حاول أفاقته ، فنبهه الرجل أنهم قاموا بكافة المحاولات ، بالطبع إلا استدعاء طبيب ، آي قاموا بكل شيء ممكن فعله مجانا ، كان الرجل متشوق لذهاب هذه التهمة من شقته .
- بص يا بنى بدل ما تطلعه فوق نركبه معك العربية و تروح بيه على المستشفى ، أنت حتى لو جبتله دكتور هيقولك أحجزه فى مستشفى ، يعنى مش هينوبك غير بهدلته و بهدلة نفسك فى طلوع ستة أدوار
- طيب ، حاضر
هم الرجل بمساعدة أولاده في حمل المريض ، طلب منهم أن ينتظروه ريثما يحضر بطانية من شقة أبيه فالجو بالخارج بارد جدا ، صعد مسرعا ثلاثة أدوار ثم تذكر أنه لا يملك المفتاح ، فمفتاح شقة والده متروك في البيت ليس ضمن المفاتيح المستخدمة يوميا في البيت و العمل ، هبط مرة أخري ، مد يده تحت عباءة والده ليخرج المفتاح فزع من بروده جسد الرجل ، صعد كما كان يفعل في سن السابعة عشرة الخطوة بثلاثة سلالم ، دخل مسرعا ، أمسك نفسه من الانهيار عندما لاحت صورة والده مع والدته تحت الضوء الوحيد المضاء في الشقة ، هبط بأسرع مما صعد ، سمع أصوات قوم يتساءلون ماذا يحدث؟ فقد نسي أن وزنه تجاوز المائة و خمسون كيلو و القفز على السلالم يثير ما يشبه الزلزال في البناء .
لف والده جيدا بالبطانية و تعاون معه حازم و باسم في حمل المريض بينما والدهما يوجه المسيرة ، تركاه في السيارة و لم يعرض أحدهم الذهاب معه ، كل ما قاله الرجل مجرد تأنيب له و لأحيه لتركهم شيخ كهذا يعيش وحده .
أسرع إلى أقرب مستشفى تذكره ، و كانت مستشفى عامة ، دخل مسرعا ، لم يحدث كما يحدث فى الحلقات الأجنبية ، لم يسرع أشخاص يرتدون يونيفورم لاستقبال المريض و أرقاده على التروللى بينما سماعة الطبيب تعمل على جسده ، الشرطي على الباب أوقفه و نظر إلى السيارة .
- حادثة
- لأ ، ده أبويا و تعب و جايبه علشان يسعفوه
- طب أخد نمرة العربية
- أبقى خدها بعدين يا أبن الـ ........ أنا معي بني أدم بيموت
فعل السباب فيه ما لم تفعله محاولة الابتسامة ، و مراعاة إنسانيته ، فما دمت تجرأت على سب شرطي فبالتأكيد أنت رجل مهم تلك هي الحال ، ترك السيارة و بها والده أمام السلم ، طلب من أحد عمال المستشفى الذهاب معه بكرسي بعجلات ، وقف العامل ينظر حوله معترضا أن الكراسي ليست عهدته و ليست عمله ، أسرع بإخراج ورقة نقدية لا يعرف مقدارها و أن كان احترام العامل أخبره أنها فئة كبيرة ، جعت الورقة النقدية الكراسي عهدة العامل و جزء من وظيفته التي يتقنها ، أسرعا به إلى الطبيب ، كان شاب صغير و لكن تظهر عليه صفات الجدية
- ماله ؟
- مش عارف ، هو والدي بس مش مقيم معاه ، الجيران وجدوه واقع فى الدور الأرضى بعد صلاة العشاء
- هاه ،( قالها و سماعته تعمل فى الجسد)
- بس
- هو بيأخذ دواء معين
- أيوه ، دواء للقلب ، نوع مرتين فى اليوم و نوع بتاع الطوارئ ، أكيد بتاع الطوارئ فى جيبه
- حد أداهوله لما تعب
- لا أظن
ترك الطبيب المريض و أمسك بذراعه و قاده بعيدا عن العامل للممر الخالي من البشر في هذا الوقت
- بص ، أمسك نفسك ، والدك كبير فى السن ، و الحمد لله
- ..............؟
- الحمد لله أنه أتوفى من غير بهدلة و راقدة فى المستشفيات ، و عشان هو راجل طيب أنا هسيبك تمشى بيه فى هدوء من غير ما حد يعرف .
- مات ( قالها بلا صوت تقريبا)
- أمسك نفسك ، أنت لوحدك ؟
تداعي جسده تماما أحس بساقيه مثل العجوة الطرية لا تقدر على حمل جسده الضخم ، سقط أرضا ، جلس الطبيب بجانبه و نهره
- مش بقولك أمسك نفسك
- مش عارف
- يا راجل علشانه هو ، أنت عارف لو سجلته أنه مات هنا ممكن ما تعرفوش تستلموه غير بكرة المغرب
- يا الله ، قوم على حيلك و خده و خرجه من بيته معزز مكرم
ساعده الطبيب مع العامل في أعادة و ضعه في السيارة ، شكر الطبيب و شد علي يده بحرارة ، وصاه الطبيب أن يركز في قيادة السيارة كأنه بمفرده حتى يصل بالسلامة .
أحتار أين يذهب هل يأخذه لمنزله ، أم يعود به للبيت القديم ، أغلب جيران البيت القديم انقطعت صلته بهم ، فليذهب إلى بيته فربما تعينه زوجته على هذا العبء ، مضى يشق الطريق و الأفكار تتوالى و التساؤلات ، كيف سيخبر أخوته ؟ ما هي الإجراءات الواجبة في هذه الحالات ؟ عند وفاة والدته تولى أبيه المسألة كلها ، و أقاربهم في البلد ، الكل سيلومه علي ترك الرجل يعيش وحده ، لا أحد يعرف أنه قبل قدميه ليترك الشقة و يعيش معه و لكنه رفض ، لن يصيب أخيه الأصغر آي جزء من اللوم فهو يعمل خارج القاهرة ، تاركا عبء الأب العجوز و ثلاثة أخوات على كاهله وحده ، تاهت به الأفكار في عالمها اللانهائي ، تسأل ماذا يحدث لي ؟ وجد نفسه يخاطب الله بصوت باكي و صارخ لما كل هذا ؟ فيما أخطأت ؟ و هل فعلها الله مع الكافرين؟
- هل عاقبتهم بكل هذا ؟
- يكفرون بك
- يعصونك
- يستحلون ما حرمته ، فكم منهم فعلت به ما تفعل بي ، قل لي
- ماذا تخبئ لي في جعبتك بعد لهذه الليلة؟
- أليس كل هذا كثيرا علي ليلة واحدة؟
أرتطم جسم بالسيارة المسرعة ، توقفت السيارة بصوت صارخ ، خرج مسرعا محاولا أن يري ماذا أصطدم به في الظلام ، كان الطريق خاليا تماما حتى سيارات النقل المعتادة توقف مرورها فى مثل هذا الوقت فقد أوشك الفجر على الأذان ، نظر للخلف على جانب الطريق يرقد جسد أنسان ممد أسرع نحوه ، شاب صغير يبدو كطالب جامعي ، حاول أفاقته ، صرخ فيه و خبط علي صدره ، كاد الولد يشبه أخاه الأصغر شبه كبير ضعيف البنية مثله مع صلع خفيف و نظارة طبية ، و وجه مثلث ، أحتضن رأسه و نظر إلى السماء قال بهدؤ شديد و باكي
- أنا أسف
- ماتزعلش
- بس أرشدنى أعمل أيه
- أسيبه و أمشى
- أخده معي و أحاول أسعفه
- طيب و اللى معي فى العربية ده أروح بيه فين
- أنا لوحدي و معي ميت و مصاب ، أو ممكن يكون هو كمان ميت
- خلاص عرفت أنك تقدر تعمل في أكتر من كده ، بس علشان خاطري ، و علشان خاطر الميت اللى معى ، و علشان خاطر النبي بلاش الواد ده يموت ، آى حاجة ألا أنى أكون السبب فى موت أنسان
- أرجوك أسمعنى المرة دي ، أوعدك مش هعترض تانى
- بس قوللى أعمل أيه
صدمت وجهه ريح هادئة فشم فيها رائحة عطرة ، لم تمر بأنفه سوي مرة واحدة من قبل ، حينما صلي الجنازة على أمه منذ خمس سنوات ، وضعت تلك الرائحة في جسده قوة جديدة ، تلاشى تعب الإرهاق و تعب الصدمة ، أنتبه إلى أنه أصبح قريب جدا من بيته ، قرر أن يحمل معه الشاب و لا يتركه لمصيره ، سيأخذه معه و يترك والده في البيت ثم يذهب بالشاب للإسعاف ، حمل المصاب و أجلسه بجانبه ، و خلع معطفه ووضعه عليه ثم جلس مكانه ، تذكر و هو يغطى رأس الشاب بالمعطف مشهد صغيره في بداية أحداث الليلة فقال للشاب بصوت مسمع
- متخفش مش هأسمح لهم يحطو الدبوس فى أيدك
أسرع إلى منزله ، سمع صوت الشاب يتأوه واهنا ، ثم تحرك ، حمد الله أنه لم يمت
- أنت كويس
- أيه اللى حصل
- الظاهر عربية خبطتك
- لأ ، أنا ما كنتش بعدي الشارع (ثم أمسك بدماغه)
- أنت حاسس بأيه
- حاسس بوجه جامد جدا فى جنب راسي .
- فاكر أيه اللى حصل
- أيوه ، أنا كنت واقف على جانب الطريق مستنى مواصلة تعدى ، و بعدين أمامي سيارة نقل كبيرة و سمعت صوت طرقعة و بعدين مش عارف
تذكر أنه قبل الاصطدام كان يسير خلف سيارة نقل محملة بالظلط ، فهم أن ظلطة أفلتت من السيارة فصدمها هو بسيارته رادا إياها إلى رأس الشاب المنحوس
- جت سليمة الحمد لله ، أنت شايف كويس
- أيوه
- بص ، هأروح بس والدى ، نايم أهه ورا تعبان شوية و بعدين أوديك الأسعاف ، لو حاسس بألم أسند رأسك و غمض عينيك أحنا خلاص أهه وصلنا
كانت ملامح النهار قد بدئت تلوح ، قابل أحد جيرانه أمام العمارة، عرض الجار المساعدة لما وجده يحمل أبيه ، طلب منه أن يأخذ السيارة و يذهب إلى الإسعاف بالولد المصاب ، نظر جاره إليه في شك ، أسرع بإخراج رخصته و رخصة السيارة .
- لو طلبوا بيانات أديهم دول ما تخافش أنا مش خابطه
أخذ الرخص و ذهب مسرعا
وجد زوجته تنتظره على مفسحا له طريقا ليدخل بحمله ، وضعه علي السرير و أخبر زوجته بالأمر ، و طلب منها التماسك لأنه تجاوز الانهيار منذ فترة ، طلبت زوجته صديقة لها هي و زوجها طبيبين و يقيمان في العمارة المجاورة لهم ، طلبت منها إن يأتي زوجها لعمل شهادة وفاة أو أرشادهما عن كيفية التصرف ، أتى الرجل مسرعا دخل على الميت و عمل بسماعاته فى الجسد .
- هو مين الحمار اللى قال لحضرتك أنه مات
- دكتور فى مستشفى .....
- الله يخرب بيته ، الراجل عايش بس نبضه ضعيف
كانت فرحته طاغية فرفع يديه إلى أعلى على امتدادهما فاردا أصابعه كأنه أراد أن يسلم على ربه أو يحتضنه و لم يستطع تحمل الانفعال صاح بصوت صارخ حتى (شكرا جدا يا رب) ثم فقد الوعي ، أفاق على صوت الطبيب و صوت زوجته .
- إيه يا عم أنت بتحب باباك أوي كده ، أحنا هنسعف مين فيكم
- هو بجد ما متش يا دكتور
- أيوه بس بسرعة جدا ، تجيب الحقن دى ، أنا هأروح أصلى الصبح لحد ما تجيبه و أجي أديهاله
نزل إلى الشارع مسرعا مع الطبيب ، تذكر أن سيارته مع جاره ، وقف محتارا ، و كأن الله يأبى ألا أن يريه مقدار عظمته ، إذ مر تاكسي من أمامه ، لم يصدق عينيه تاكسي في هذا الوقت المبكر من الصباح يمر من أمام بيته في تلك الضاحية التي قلما أن يمر بها تاكسي حتى في وقت الذروة ، أوقفه ، فنظر له السائق متسائلاً
- لو سمحت حتودينى بس ندور على صيدلية فاتحة علشان أجيب دوا مهم
- أتفضل
دخل إلى السيارة و ما أن تحرك السائق بالسيارة
- و الله حضرتك أبن حلال ، أنا جايب زبون من المطار لهنا دلوقت و كنت ناوي أروح ، أخويا ساكن هنا بعديكم بكام شارع و بيشتغل فى صيدالية فى نفس المنطقة و معاه مفتحها ، أنا كنت مروح لأنى مكسوف أروحله على الصبح كده ، مع أنى نفسي أشوفه ، بس أهو النصيب بقى
- يعني يوافق يفتح الصيدالية و يدينى الدوا دلوقت
- أيوه طبعا ، ربنا بيقول أغاثة الملهوف واجب علينا
- الله يكرمك ، أنت تاكسي و لا ملاك ربنا باعتهولي
- بس بعد أذنك أطلبهولي على موبيلك
كاد يصيح مرة أخري شاكرا ربه و لكنه خشي أن يظنه السائق مجنون ، و أن كان الجنون رد فعل بسيط لما مر به فى ليلته هذه و بالفعل أسرع أخيه إليهم و جاءهم بالدواء و عاد به السائق الملاك إلى بيته ، عرض عليه مبلغ كبير فرفض أخذ أكثر من مبلغ التوصيلة طالبا منه إلا يحرمه الثواب عند الله .
وجد جاره ينتظره مع الشاب المصاب و قد وضعت ضمادة على رأسه و كان مبتسم و قدم له البالطو شاكرا ، ثم طلب رقم تليفونه لأنه يشرفه أن يكون صديق لمثله فلو كان تركه على الطريق فمن يدرى ماذا كان يمكن أن يحدث ، طلب من جاره أن يوصل الشاب إلى أقرب مكان مواصلات فرحب الجار ،و لكن الشاب أبي
- أنتم كتر خيركم لحد كده
- أصل هنا المواصلات بعيدة
- لأ كفاية كده ، خلاص الدنيا نهار و أنا هأتصرف ، ربنا يقدرنى أرد جميلك
- أدعى لأبويا يقوم بالسلامة
- أنشاء الله عملك يقعد لك فيه
صعد مسرعا ، وجد طفليه قد استيقظا ، يقفان بجوار جدهما الذي يعبدونه ، كان طفله الصغير يشكو للجد
- شفت يا جدو بابا الجاموسة ساب الراجل يحط الدبوس في أيدي
- يا عبيط جدو نايم مش سامعك (قالت أخته)
- ما تصحي بقى يا جدو علشان نروح تصلى الجمعة
- يا عبيط أنهارده الحد يوم الجمعة كان قبل أمبارح
جاء الطبيب ، و أعطى الشيخ حقنة كبيرة بينما الولد يصرخ لأن جده هو الأخر قد وضع الدبوس فى يده ، وصف الطبيب لزوجتي كيفية إعطاءه الأدوية و مواعيدها ، سألته هو عن العلبة الأخيرة
- لأ دي لجوزك يأخد منها مرتين لمدة ثلاثة أيام
- ليه؟
- واضح أنه أتعرض لانفعال شديد جدا ربنا يكون في عونه موقف صعب
مشى مع الطبيب حتى الباب حاملا صغيره محاولا تهدئته بينما تنهال اليد الصغيرة المريضة بوهن على وجهه
- ليه سيبت الراجل يحط الدبوس فى أيد جدو
- ما تزعلش يا بودي ، يا ريت أقدر أخد الدبابيس كلها ، بدلكم كلكم
(تمت)

البدري
2/7/2007

٢٠ مايو ٢٠٠٧

أول من أخر
رواية

(1)
مع أنه ليس له ذنب في الصوت الذي أحدثه إطار سيارته ألا أنني كرهته و كرهت سيارته أيقظ الصوت المدوي هذا الإنسان أو بقايا الإنسان الملتفة ببقايا سجادة أو ربما كان لحاف في يوم من الأيام ينام بجوار بضاعته (مناديل ورقية و كبريت ) أمام محل الكشري الشهير بباب اللوق .
شعرت بالشماتة و أنا أراه يخرج من السيارة رافعا ياقة معطفه الطويل الفاشل في إخفاء هذا الكرش الضخم و نظرات الإشفاق على نفسه من هذا العناء المفاجئ تملأ عينيه المطلتان من خلف نظارة لم أشك لحظة في أن إطارها صنع من غير الذهب .
الشارع ليس به أحد سواي و بائع المناديل و السيارات المسرعة و حدث الانفجار بجواري عند مروري تماما بجانب بائع الجرائد النائم فرئيت نظراته الفزعة التي ذكرتني بنظرات أرنب ممسوك من أذنيه استعدادا للذبح ، فكرهت من أجله صاحب السيارة و كل أصحاب السيارات .
أما الذي حدث بعد ذلك فقد أرق كراهيتي و لم يتركها خالصة نقيه كما بدأت لم أكد أستمتع بها كما ينبغي أو أنسج في خيالي قصص عن الغنى و الفقير و الفجوات الاجتماعية و السعادة و الشقاء ، كنت أتوقع من بائع المناديل أن يسب صاحب السيارة أو يدعو الله أن يبيده و أمثاله من المزعجون أو يشير حتى بيديه إشارة تدل على بعض ما لاح في عينيه من غضب ، و لكنه للأسف هب واقفا و جرى نحو ذو الكرش الضخم (سحبت لقب صاحب السيارة) عارضا المساعدة يبدو حامدا الله على هذا الرزق الذي أتى له من حيث لا يعلم ، بدا صاحب الكرش الضخم القبيح سعيدة بهذه المساعدة فوضع يديه في جيوبه الدافئة تاركا الآخر يعمل و كلاهما سعيد سعادة بالغة ، كرهت الغنى و احتقرت الفقر .
و كنت سعيدا مع ذلك بهذا الموقف في جملته فقد تركت المنزل متمنيا قضاء الليلة في الشوارع ماشيا فكم أحب ليل الشتاء الهادئ الجميل و هاهو مشهد أنساني يحدث بجواري يترك لدى انطباعات و يغرقني في تفكير عميق و يوقظ أحاسيس متفاوتة بأعماقي .
عادة اكتسبتها أو أوحت لي بها أفكاري المجنونة أن أنزل إلى الشوارع ليلا أبحث عن شئ وهمي ، كم تضايق آمي تلك العادة و تخيفها لا تتصور أن يمشى أحد بمفرده في مدينة نائمة (رقيقة هي و حنونة آمي هذه ) و لكنى يا أماه لا أراها أبدا نائمة فمدينتي لا تنام ، كم أقابل في تلك الجولات الليلية و كم أشاهد و أتفرج و أخزن بعقلي لأفرغه على أوراقي البيضاء المخزنة في درج مكتبي و أرسله لآخرون ليرمونه في سلة المهملات بجوار مكاتبهم أنني أساهم يا أمي في تنمية و تطوير وظيفة الزبالين في مدينتي و لم أرجع مرة خاوياً كما خرجت .
كانت الساعة تقترب من الواحدة و النصف عندما وصلت إلى ميدان التحرير فكرت في عبور الميدان في اتجاه كوبري قصر النيل و لكن عدلت عن الفكرة فهناك لن أجد سوي شوارع مظلمة و عربات السائحين العرب و المصريين السكارى و رؤيتهم تستفزني و تثير بداخلي رغبة في المشاجرة و قد وعدت أمي أن أتجنب المشاجرات في جولاتي الليلية ، فعرجت فجأة يمينا وواصلت السير قاصدا ميدان رمسيس فهو لا ينام و ربما أجد مقهى هناك يمتلئ بأهل الجنوب القادمين من دول الخليج منتظرين قطارات الصباح التي تقف في قراهم و ربما نجوعهم و أمامهم حقائبهم الممتلئة و الشوق للأهل و فرحة العودة تطفو على أعينهم فوق عناء الرحلة الطويلة ، و نفاذ الصبر لرؤية الأهل يبدو واضحا فقد تكون تلك الليلة أصعب من سنوات صعيبة في الغربة و البلاد القاصية و ربما أسمع عبارات تعبر عن ذلك ، خلاص هانت ، كلها سواد الليل ، بس أنا لسه مشوار طويل لجنا(قنا بالصعيدي)، الصبر يا ولد العم ، و يبدو ولد العم كمن يبحث عن الصبر في الوجوه المحيطة أو ربما عن ما يضع فيه فائض الصبر عنده ، فوعائه الخاص قد امتلاء بالصبر و فاض منه الكثير ، مع ذلك لا يجرؤ أحدهم على حسم تردده و استدعاء سيارة مخصوصة اللهم إن كانوا أكثر من خمسة و ذاهبون لنفس البلدة حيث توزع أجرة السيارة على الجميع ، ما زالوا يعيشون أيام التقطير كما عاشوا بالغربة بعدها انفراجة عظيمة في قراهم تأتى على كل ما ادخروه ليرتحلوا مرة أخرى ، و هكذا .
الآن وضحت معالم جولتي لهذه الليلة سأذهب إلى مقهى بالذات يقصدونه لأن صاحبه يمكنهم من ركوب عربات القطارات و هي مازالت في مخزن السكة الحديد و بذلك يضمنون الحصول على أماكن للجلوس ووضع الحقائب ستكون رحلة مكررة و لكن لا مانع لدى حيث أحب مشهد الوداع بينهم و بين زملائهم من بحري و تلك الأحضان الحارة السعيدة الحزينة و ربما الدموع أيضا دموع رجال شاهدوا الأهوال و مع ذلك تنزل لوداع الأحباب غير خجلة سأراهم و هم يؤكدون عناوينهم لبعضهم البعض (تنزل المنيا تركب لتونة الجبل في تونة الجبل تسأل على عربيات عذبة خير الله و في العذبة تقول بس محمد أبن أبو سيف أوعى تنسى ) ويبدأ من يتقن الكتابة منهم في تدوين العنوانين و ربما أرقام التليفون أن وجدت كم أستمتع بمحاولة تخمين من سيفي بالوعد منهم و يذهب للزيارة أو يرسل خطاب ، سأشترى الجرائد جميعها لتكن وسيلتي في الهرب من نظراتهم أو الحديث معهم أريد سماعهم فقط ، استعدوا يا أهل الجنوب يا أطيب القلوب و أقساها و أقربها إلى قلبي قادم إليكم لأسود صفحاتي بحكاويكم و أقاويلكم لتذهب في قمامة من يظنون أنفسهم مهمين .

(2)
لا يوجد في الميدان على ما أتذكر بائعي جرائد في مثل هذه الساعة أحدهم يفرش عند المسجد الكبير و لكنه يذهب قبل الثانية عشرة خلال الشتاء و اليوم شتاء قارس لابد أنه ذهب من زمن ، أذكر أنه يوجد كشك داخل المحطة نفسها لا يغلق أبدا دخلت المحطة ربما أدخلها لأول مرة في مثل هذا الوقت مختلفة تماما لا أحد يجرى ليلحق بقطار كاد أن يغادر لا صياح باعة و لا صراخ أطفال لاتجد أمهاتهم مكان مناسب لإرضاعهم في الزحام و لا أصوات قطارات حتى ، مجرد مكان واسع جدا برح جميل و غامض و محبب للنفس شبه خالي من البشر إلا قليلون و قطار واحد لم أسمع صوته إلا بعد الاقتراب منه يبدو أنه على وشك القيام .
اشتريت الجرائد و كتاب أعجبني .. فكرت.. أين يذهب هذا القطار؟ .. تذكرت أن هناك قطار ليلي يسافر للإسكندرية يطلقون عليه قطار الصحافة لأنه يحمل الجرائد اليومية إلى المدن و المراكز التي يمر بها ، سألت الرجل ذو البذلة الزرقاء الواقف على مقدمة الرصيف حاولت أن تكون لهجتي و طريقة سؤالي كمن يعلم و يريد التأكد .
- مش ده برضه قطر أسكندرية ؟
- نعم ، درجة ثانية و ثالثة ، قالها و هو يومئ إلى دفتر التذاكر في يده
ظن الرجل أنى أريد السفر فعلا ماذا سيظن من شخص يدخل محطة قطار في مثل هذه الساعة احتمال البحث عن الأفكار أبعد ما يكون عن مخيلة الرجل ، السفر ، يا لها من فكرة ، لم لا ، كم أنت رائع يا حامل التذاكر ، لم أراها شتاء من قبل ، كم سمعت عن روعة المدينة في الشتاء هيا أذن ، إلى الإسكندرية لأعاين هذا الجمال الشتوي .
- تذكرة درجة ثانية لو سمحت .
قطع التذكرة بحركة رتيبة جدا و ناولها لي مع باقي الخمسة جنيهات ، كانت التذكرة أرخص مما توقعت ، لم ينفعل الرجل لمغامرتي بالطبع فما أدراه أنى على وشك مغامرة جديدة الآن لعله لم يفكر حتى في سبب سفري ، لأول مرة أبتعد عن المنزل في جولاتي الليلية أكثر مما أستطيع عودته سائرا على قدمي ، أما الآن فأنا على وشك السفر على وشك مغادرة المدينة الحبيبة ماذا سأجد و إلى متى أستطيع أن أظل مستيقظ .
- متى يصل القطار إلى الإسكندرية ؟ هكذا سألت
- ستة و نص ، سبعة .
الساعة الآن الثانية تقريبا أي حوالي أربعة ساعات و نصف ، ما المانع لم أكن أنوي الرجوع للمنزل قبل هذا الوقت ، و لكن مهلا ، عندما يحين وقت رجوعي للبيت سأكون في الإسكندرية متعب من السفر و من عدم النوم ، ثم هناك احتمال أن أصاب بحادث أو يسرقني أحدهم و لا أحد يعلم أين أنا ، راودتني تلك الأفكار و أنا بطريقي لعربات الدرجة الثانية مارة على عربات الدرجة الثالثة الرثة القبيحة ذات الكراسي أو ربما الدكك الخشبية ، طردت التردد من أفكاري و حسمت الأمر بأن قذفت بنفسي داخل القطار الضخم كما قذف يونس عليه السلام نفسه في جوف الحوت تاركا الأمر لله .

(3)
لم تكن عربات الدرجة الثانية أفضل حالا بكثير عن عربات الدرجة الثالثة فهمت معنى ما قاله لي حامل التذاكر (ما فيش في القطار ده ثانية فاخر) العربة غاية في القذارة كراسي منجدة و مغطاة بمشمع أخضر يبدو في الظلام داخل العربة أسود ، عموما لم أهتم ما يهمني هو الأفكار و الأفكار أجدها عندما أجد البشر و لكن هذه العربة ليس بها سوى رجل واحد نائم إذا جلست هنا ستكون الرحلة هباء ، فلأبحث عن أخرى ، ها هي ، تبدو مظلمة و لكنها مليئة بالبشر ضوء الرصيف يتسلل إلى الداخل ليظهر أشباحهم ، جنود و عمال المحطة يتجولون في العربة لا أدرى أن كانوا يفتشون القطار أم الركاب أنفسهم ، فهمت بمقارنة بسيطة بينها و بين العربة الأخرى سبب اختيار الأغلبية لهذه العربة حيث وجدت أن أغلب زجاج العربة سليم و موجود مكانه بعكس العربة الأخرى التي تتجول فيها الرياح طولا و عرضا ، أنه البرد أذن ما يخيف ركاب القطار (فهمت بعد تحرك القطار وذادت سرعته أهمية الزجاج أكثر) ، اخترت مقعدين شاغرين لم يرغب فيهما أحد السابقين نظرا لعدم توافر الزجاج في النافذة بينهما جلست على أحدهما ووضعت قدمي على الأخر في وضع مريح متجنبا آي نظرات توجه إلى و مرهفا سمعي لكل ما يقال و تظاهرت بقراءة الجريدة برغم الضوء الضعيف الآتي من الخارج يا له من جو غريب لم أعشه من قبل تلك الاستعدادات للرحلة الطويلة الشاقة توصيات لعامل البوفيه أو بائع الشاي فقط بعدم النوم (الجو برد يا عمنا أبقى لاغينى كل شوية) استعدادات لم أرى لها مثيل لبرد قادم و كأن الجليد سوف ينزل داخل القطار .
انتبهت لحركة فوق رأسي على الرف المخصص للحقائب أحدهم يقوم باستعدادات كبيرة ، كان جنديا ، خلع بدلته السوداء و فظهر تحتها كم هائل من الملابس الصوفية أكثر من سروال فوق بعضهم و أكثر من بلوفر كذلك و بالتأكيد يرتدى عدد من الفانلات التي لم أراها أرتدي جلباب صوفي واسع بدلا من البذلة الميري ، فوق الجلباب و ضع بالطو يبدو ثقيل جدا و خشن المظهر و غاية في القدم ابتسمت بداخلي فها أنا أرى رجل يرتدى ملابس لو خلعها فربما ملأ بها دولاب كامل ، بعد أن دثر رأسه بشال أبيض خفيف تلاه بشال خشن و ثقيل فوق طاقية صوف تصل إلى نهاية أذنيه رفع ياقة البالطو و بدأ يتحرك كالمومياء فرش بطانية على الرف ثم ثنى بدلته الميرى صانعا منها وسادة و تدثر ببطانية أخرى و فرد جسده على الرف و توقف بعد ذلك عن الحركة تماما حتى نسيته .

(4)
سخص أخر أحتل الرف المقابل و لكنه لم ينم بعد مع ذلك كان في صوته رنه كصوت من أستيقظ لتوه يتحدث مع أخر لا أستطيع تحديد مكانه مع سماعي لصوته بوضوح أغلب الظن كان في المقعد خلفي
- تعال هنا يا له لو الدنيا شيتيت هتغرج
- لا يا عم أنت عايزنى أجع تنفتح دماغى
- طب ما أنا أهو ، الطلبة هتصحيك من أول كفر الزيات عشان يجعدوا
- و ماله ده حتى بيبقى فيهم بنات حلوة ، يا عم خلينا نشوف
و مضى الحوار و كل منهما يتفاخر على الأخر بحسن اختياره لمكانه الذي سيقضى فيه الرحلة حتى فتر الحوار فسكتا أو ناما ، عدت إلى الجريدة أقرأها فعلا هذه المرة و لا أتظاهر فقد سأمت أحاديثهم أسرع مما توقعت فأغلبهم اعتادوا على السفر في مثل هذا الوقت ربما يوميا كما فهمت من كلامهم و أسئلتهم عن المتخلفين اليوم ، هم أذا مثلى عندما أركب الأتوبيس في ذهابي اليومي للجامعة لا يجدون آي أثاره و لا يشاركونني آي من الأحاسيس المتفاوتة بداخلي و لا تظهر بهجة السفر في عيون آي منهم .
صعدت امرأة مع ولد في بداية المراهقة ، أبنها على ما يظهر ، بحثت عن مكان و ما أن نظرت إلى المقعد أمامي حتى أنزلت قدمي و أسرعت بالمسح بيدي مكان موضع قدمي ( أل يعنى هو نظيف قوى) جلس الولد أمامي و المرآة بجانبه امرأة قروية بالتأكيد لا أحب تخيل مثلها تسكن المدينة (فمدينتي أسؤ من أن تسكنها مثلها)، الجلباب و الطرحة السوداء و الملامح الطيبة عينيها مائدة عامرة بالأمومة و الحنان ، الفتى متواضع المظهر ملابسه تبدو جديدة و لكنها من طراز قديم ، وجه إلى نظرات كراهية كلما التقت أعيننا أظنه نقى جدا، ما في صدره يظهر مباشرة على نظراته و تصرفاته ، مع ذلك حرت في سبب كراهيته تلك هل هو الحقد النمطي بين أبناء القرى و أبناء المدن و لكن ما أدراه أنني قاهري ، ربما تضايق أن يجلس مكان قدمي و لكنى مسحته له بيدي مجردة ، حسنا فلتكرهني أيها القروي التافه يا من تركت أمك تحمل الحقيبة الثقيلة على رأسها لتضع أنت يديك في جيوبك،فالتعلم أنى أكاد أحمل آمي نفسها إذا ظهر عليها الإرهاق (كم أكره تلك العادة في أهل قرى الدلتا يعاملوا المرأة كأنها حمارة تحمل أغراضهم ) سأضع الآن قدما فوق أخرى حتى أزيد ما تكنه لي من كراهية .

(5)
أخرجت المرآة كيسا ، شممت رائحة يوسفي واضحة أعطت واحدة لأبنها تناولها بدون حتى أن يوجه لها كلمة ، ثم أخرجت أخرى ، ذهلت حقا و يدها تمتد بها نحوى كان يجب أن أتوقع مثل هذا التصرف و لكن لم يخطر ببالي لذا كانت دهشتي عظيمة ، نظرت لها بفزع على ما أظن .
- أتفضل يا بنى
- شكرا يا حجة
كيف أستطيع الرفض مع تلك العبارة و الطريقة التي قيلت بها ، بدت كمن تخشى أن أرفض ، فكيف لي أن أتمنع حتى كما علمتني آمي و أنا صغير و نبهت على إلا أخذ شيء بدون إلحاح من معطيه ، لعنت نفسي لعدم الالتزام بتعليمات أمي فربما تكون أعطتني حرجا أو حتى لتحمى ولدها من نظر الآخرين فيما يأكل ، و لكن يكفى أنني لم أكسف تلك السيدة الطيبة فلا داعي للتأنيب لقد أخذت ما قدمته لي و أنتهي الأمر ، سأكلها بتمهل شديد حتى ينتهى الكيس و لا تقدم لي أخرى .
بدء القطار في التحرك حدثت حركة غير عادية بين الركاب برغم أنهم جميعا جالسون و لا يوجد آي مودعين ، نظرت من النافذة أحب حركة البداية الناعمة للقطارات حيث أتخيل أن مكاني ثابت و كل الأشياء في الخارج تتحرك المحطة بالكامل تتحرك إلى الداخل الرصيف و الأعمدة الحديدية كل شئ ، فجاءة ظهر على الرصيف ما أرق خيالي ، شاب أنيق جدا ووسيم أيضا جالس على الأرض ينتحب بشدة تصورت أن نفسه ستخرج من عينيه مع الدموع من شدة النحيب ، ياله من منظر، فالأنزل و أضحى بالرحلة لأعرف السبب ، تبا ما هذه الحقارة ، فاليكن سبب نزولي هو مواساته و ربما مساعدته أن استطعت ، تراجعت عن النزول فقد عقدت العزم على إكمال المغامرة و أضفت لغز الشاب الباكي في ذاكرتي للغز بائع المناديل و ذو الكرش القبيح لأفكر فيهما فيما بعد ، يا ليلتي المميزة ماذا تدخرين لي في جعبتك السحرية؟ .

(6)
ها هو القطار يسرع و يعلو صوته لم أتصور أنه سيكون مزعج هكذا أو أن البرد القادم من النافذة سيكون قاسيا هكذا ليتني لم أجلس في هذا المكان ، مشكلتي آنستني مؤقتا الشاب الباكي ، ها أنا أترك القاهرة و لا أمل في العودة قبل عصر اليوم التالي و لم أنم بالطبع و لا ينتظر أن أنام في القطار مع كل هذه الأصوات و هذا البرد القارس ، ثم ماذا سأفعل في الإسكندرية ؟ و أين أذهب هناك؟ ، سافرت إليها كثيرا مصطافا في رحلات ينظمها عمل أبى في كل مرة يأخذنا أتوبيس الرحلات من أمام عمل أبى بوسط القاهرة إلى السكن بالإسكندرية نعرف طريق أقرب شاطئ للسكن و نذهب إليه يوميا و ربما تجولنا ليلا في المناطق القريبة من السكن ، لا أتذكر أنني استخدمت المواصلات مرة في الإسكندرية و لا أعرف أحيائها سوى بالأسماء فقط التي أسمعها في الأفلام و ربما رأيت بعضها على لافتات عربات المشروع و الأتوبيسات هناك ، لو استخدمت التاكسي مثلا أين سأطلب منه أن يوصلني ؟ ربما أطلب منه أن يوصلني لحى بحري بينما أنا فعلا متواجد بهذا الحي ، آي ورطة .
كم أريد سؤال هذا الولد الفلاح عن سر نظرات الكراهية الموجهة إلى من عينيه (هل يظن أنى عشيق لأمه أبن الـ.......... هذا ) أخرجت سجائري فكرت أن أدعوه لواحدة لكن تراجعت يصغرني بخمسة سنوات على الأقل قد يكون فرقا قليلا و لكن في حالتنا فالفرق حوالي ربع عمري ربما أكثر من ثلث عمره هو .
كادت عيناي تخرج من محجريهما و قلبي يقفز من صدري عندما وقع نظري عليها مفاجأة كالصاعقة (شكرا يا ليلتي المثيرة المدهشة ، شكرا أيها القدر) فتاة وحدها في هذا القطار الفقير و في مثل هذه الساعة من الليل، جميلة بوجه عام لم أتبين الملامح بالتفصيل في ظلام العربة طويلة الشعر رشيقة ملابسها على قدر كبير من الموضة و لكن تبدو كمن أرتدها على عجل من أمرها كانت تبحث عن مكان تجلس فيه ، وقفت مترددة ثم جلست بجواري مواجهة المرآة الأم (شكرا مرة أخرى أيها القدر) ، تجولت بنظري الجميع ينظر إليها كشيء غير مألوف البعض أعتدل بجلسته ليتابعها العجوز الجالس خلف المرأة الأم و أبنها استدار برأسه تماما حتى أصبح منظره مضحكا و أخذ يتفحصها ، أيضا المقعدان بجانبنا أعتدل النائمان عليهما ليتفحصا تلك القادمة الغريبة ، بدأت أختلس النظرات ترتدى تقريبا مثلى حذاء رياضي مع جينز و جاكيت قصير لم أتبين بالطبع ما تحته .

(7)
تجنبت النظرات الفاحصة حتى تهدأ عاصفة الاستطلاع و تستقر هي آمنة في مقرها بجواري ( ما أسعدني) ، فها هي بجواري سأنظر بتمعن شديد فيما بعد فمازلت الرحلة طويلة و الجميلة بجانبي أنا و ليس غيري ، تشاغلت بالنظر من النافذة و تدخين سيجارتي و أن كنت متحفزا تماما ، هاهي الرحلة تتخذ مسار جديد و الليلة تتحول من مجرد جولة أقصى ما أتمناه فيها هو الإنصات لزبائن مقهى سهران ، هاهي الليلة تلقى على بفتاة شابة ربما تصغرني مسافرة وحدها في تلك الليلة الباردة و في مثل هذا القطار الفقير ، شغلتني تلك التساؤلات و الأحلام عن التفكير فيما يجب أن أفعله حتى أبدأ معها حوار أفهم منه شئ عنها ، فمرة أراها عاهرة تبحث عن صيد و جلست بجانب لأني الصيد المختار و مرة أراها فتاة هاربة من قسوة أهلها تبحث عن صدر حنون و بالطبع أنا هذا الصدر أو قاتلة مجنونة قتلت الكثيرين و تبحث عن فريسة جديدة و اختارت أخر فرائسها الذي سوف يعالجها من مرضها القاتل و يشفيها لتقع في حبه ( مفهوم طبعا من هو أخر فرائسها) .

(8)
و لكن هل أكتفي بالخيال ككل مرة تتاح لي فرصة التعرف بفتاة هل أنتظر أن تبدأ هي كعادتي ؟ ، كيف أتخلص من الحجر المربوط بلساني ؟ تذكرت فتاة أعجبتني من زميلات الجامعة شغلت تفكيري مدة طويلة لم أفعل شئ خلالها أكثر من النظر إلى عينيها و من مسافة كبيرة نظرات جامدة لا تحمل آي معنى لم أقدر حتى على تحويل تلك النظرات إلى نظرات حالمة محملة بالرسائل ، كانت دائما أواجهها بوجه من جليد و كأنني أريد إفزاعها ، كانت تبادلني النظرات و تبدو عليها الحيرة بينما يتصارع وحشان بداخلي ، و أحفز اللخمة و أقول لنفسي تحرك يا حمار ، ثم أتت الفرصة يوم جاء مجلسها بجانبي لا يفصلنا ألا عدة سنتيمترات بدت كمن تنتظر أن أبدأ بالكلام و كدت أضرب خجلي بالداخل و أصبت بألم في معدتي و لم أتحرك تشاغلت بأشياء كثيرة ثم فجأة بكثير من الخجل سألتني عن الساعة فأجبت باقتضاب شديد و ربما بشيء من القرف فعل جسدي ذلك ربما أخرجت صلف و عجرفة كقناع لخوفي و جبني العميقين بينما دقات قلبي تتسارع و وخذه تتزايد في قدمي ، لملمت أشيائي و هربت من جانبها و هي تنظر لي و عينيها تقول (أمال بقالك شهور بتبحلق فى ليه يا منيل) .

(9)
بعد ذلك لم أجرؤ حتى على النظر بوجه جامد ضاعت كما ضاعت قبلها كثيرات ، و لكن الآن الوضع مختلف أنا الآن في قلب مغامرة كبيرة أذن فأنا مغامر لأنطلق من هذا الأساس بنفس روح اللامبالاة التي أركبتني هذا القطار ، و لكن ما الداعي لسبق الأحداث لم أرى وجهها بوضوح حتى الآن رأيت فقط هيكل فتاة حتى رشقتها أو طولها أمر مشكوك فيه حتى الآن ، لنعاين أولا قبل بذل المجهود في تحريك اللخمة فربما لا تستحق أن أحركها من أجلها توقف القطار فوجدتها فرصة أن أستدير برأسي و أرى وجهها متصنعا النظر في النافذة المقابلة لرؤية المحطة كلها ، وفعلت ، أظن بدت حركة رأسي عصبية جدا و مضحكة و مع ذلك عدت بها دون أن أحصل على شئ يذكر فالعربة مظلمة تماما و تبينت أن القطار أيضا متوقف في مكان مظلم و ليس محطة و لا أحد يعرف لما توقف .
بدء بعض الرجال محاولات لإنارة عدة لمبات بالعربة مجموعة من معتادى السفر في هذا القطار يعرفون بعضهم جيدا و يعرفون الكمساري أيضا أغلبهم كبار السن ، انتخبوا أطولهم فصعد على مسند أول كرسي في العربة و مضى متنقلا على مساند الكراسي محركا جميع اللمبات عسى أن تضئ أحدهم ، كان طويلا فعلا شبه عملاق و بالفعل تمكن من إضاءة أربعة لمبات في الجزء الذي نجلس فيه و كنا في منتصف العربة تقريبا و لكنه أكتفي بذلك و لم يكمل و جلس مكانه و بدا كالمنتصر في معركة ما ، و لم ينسى أن يسب النائمين على الأرفف و أتهمهم بإفساد الإضاءة حتى يتمكنوا من النوم .

(10)
أعجبني الضوء رغم شحه و أعجبني أكثر أن محاولتي القادمة سيكللها النجاح و لكن لم أقدم عليها سريعا فشجاعتي قد استنفذت خلال المحاولة الأولى ، فتحت الجريدة على آي صفحة لم أهتم كالعادة بفتح صفحة الأدب أو الاقتصاد حتى أوحى لأحدهم بأهميتي ، كنت في الحقيقة لا أقرأ أصلا انشغلت بمراقبة نظرات الفتى القروي إليها بدا عليه و أمه الاهتمام بها منذ اللحظة الأولى ، ربما أكون قد توهمت الكثير بالتأكيد لست أنا سبب اختيارها لهذا المقعد و أنما السبب هو وجود المرآة الوحيدة في العربة به ، أخرجت المرأة كيسها مرة أخرى امتدت يدها للفتاة فتمنعت قليلا ( ما أعذب صوتها و هذا الرقى الجميل في لهجتها) ثم رضخت أمام إصرار المرأة أحسست بيد المرأة تمتد نحوى فتظاهرت أكثر بالانشغال بما أقرأ .
- يا أستاذ
أستدرت بحركة عصبية فعلا هذه المرة كمن فزعه أحدهم
- أتفضل
- أسف و الله يا حجة مش قادر
- تعدمني لو ما أخذتها دى حاجة بسيطة يا بنى
- .................
- و النبى يا بنى ما تكسف أيدى
أخذتها شاكرا
- يا خويا أحسن من السجاير اللي عمال تحرقها دى
لم أجد ما أقوله فابتسمت و لكن المرأة كانت متحفزة للحديث فيما يبدو ربما مثلى لمعرفة الفتاة أكثر و حل لغزها ، أصطادت طرف موضوع التدخين و بدئت تتكلم عن أضرار التدخين بسذاجة شديدة
- مش كده يا ختى
انتبهت جدا صوت القطار علا فلم أسمع ماذا قالت و أن بدت لي موافقة على كلام المرأة أجبت بعبرات محفوظة عن العادات السيئة و تمكنها من الإنسان ، تخيلت أن الفتى سينفجر من الغيظ ربما غير راضى عن طريقة أمه الساذجة في الكلام أو لأنها جعلت منى أنا موضوع الحديث و ليس هو قررت أن أرضيه قليلا
- ربما يكون أبنك مدخنا و أنت لا تعرفين ( قلتها للأم)
أبتسم الفتى واثقا بسعادة لمشاركته في الحديث و أعلن أنه لا يفكر أصلا في التدخين ثم أعاد كلام أمه بطريقة أكثر سذاجة و كان ينظر أو يبحلق في الفتاة بجواري مع نهاية كل جملة يقولها و كأنه يقيس تأثير كلماته عليها ، أذن فهناك غيري يدور في فلكها (و رأيتني أطيح به بيد واحدة و أعصر رقبته بقبضتي لأفوز بالجميلة فربما لا فارق في السن كبير بيني و بينه و لكن فرق الحجم الهائل سيحسم المعركة لصالحى بالتأكيد) تشعب الحديث و طال عن القطارات و الزراعة و وصول الجرائد للمدن و القرى النائية كان في الغالب أسئلة من جانبي و أجوبة من جانب الولد و أمه اشتركت معنا الفتاة بجمل قصيرة مختصرة و كانت المرأة تحدثها كل مرة لتشارك تلك المشاركة السريعة ، مع ذلك استمتعت بالحديث لمجرد أنها تسمعه فها هو خوفي و جبني و لخمتى يتضاءلوا و يظهر الشخص اللبق المتكلم المثقف الذي يعرف أكثر من الآخرين ، كان مجرد سمعها لي و مشاركتها المختصرة يدفعي للكلام أكثر و أكثر و لولها لكنت أنا المستمع .

(11)
حتى ذلك الحين لم أكن رأيت وجهها بعد قمت بعدة مناورات حتى أرى أكثر أسندت رأسي للمقعد حتى التصقت به و لكنها كانت في نفس الوضع فكان على أن أستدير حتى أراها و لم أفعل بالطبع طبيعي أن ينظر المرء إلى محدثه و مع ذلك كان حديثي كله موجه للمرأة و أبنها دونها هي ، كرهت الجبن و التردد و استسلمت لهما .
عندما سألتها المرأة إلى أين هي ذاهبة أجابت بكلمة واحدة مثلما أجبت أنا ( الإسكندرية) ، و كانت الأم قد أعلنت أنهما ذاهبان إلى كفر الزيات أذن سأقضي معها بعض الوقت منفردين بعد ذهابهما و قد عملت المرأة بالفعل على كسر حاجزي الجليدي بيني و بين الفتاة فالكلام قد بدء بالفعل ليت كفر الزيات هذه تكون قريبة و أبعد ما تكون عن الإسكندرية .

(12)
هاهي الفرصة هبطت من السماء ، طلبت الفتاة منى التنازل عن مكاني لتجلس قرب النافذة (تسمح أقعد جنب الشباك) قالتها برقة شديدة ، و لكن رقتها لبختنى فكان رد فعل الفتى أسرع أتخذ قراره حتى قبل أن أفكر بالرد و تنازل لها عن مجلسه أمامي ، مع ذلك قمت واقفا سامحا لها بالاختيار ، اختارت مجلسه هو و انتقلت إليه و جلس هو بجانبي ، أحسنت الاختيار بالتأكيد فأخيرا سأراها بوضوح ، ليست جميلة كما ظننت متوسطة الجمال و الطول ، شعرها ليس بسواد الليل و بشرتها ليست بيضاء جدا أيضا كل هذا كان من خيالي التعبان فقط ، مع ذلك ما المانع من التعرف عليها ؟ ، و جعل الرحلة مسلية أكثر ، فالحديث إلى فتاة ممتع حتى و أن كانت متوسطة الجمال ، و هاهي البداية الصعبة قد انتهت و أظن أنها أطمئنت إلى .
و لكن للأسف أصاب الفتور حديثنا و لم أستطيع فتح موضوعا جديدا فأنتهي الحديث مع دخول القطار محطته الأولي ، بدأت في حل الكلمات المتقاطعة بذهن مشتت تماما كل تفكيري كان في الطريقة التي أوصل بها حبل الحديث مرة أخرى كنت أختلس النظرات إليها من حين لأخر ، طلبت المرأة منى أن أوقظها و أبنها قبل كفر الزيات إذا غلبهم النوم ، أحتج الفتي و أعلن أنه لا ينام أبدا في المواصلات استأذنت هي في الجريدة ،
- تسمح الجرنال
- أقدر أحتفظ بصفحة الكلمات المتقاطعة .(قلتها مبتسمة ابتسامة عريضة ربما بلهاء )
- طبعا
فصلت الصفحة برشاقة و مددت يدي لها بباقة الجريدة أخذتها شاكرة ، هل هي مناورة منها لبدء حديث أنقطع أم أنه طلب عادي ؟ ، لم تزيد كلمة واحدة بعد شكرها لي ، أتى الكمساري و لم يحدث كما في الأفلام العربية أن أدفع لها ، بل كانت تحمل تذكرة في جيب الجاكت ، و لحظت للمرة الأولي أنها لا تحمل حقيبة يد مثل باقي الفتيات أو آي حقائب أخرى هل يكون سفرها مثلى بالصدفة هل هي باحثة عن الأفكار (فكرة مستبعدة بالنسبة لفتاة) فأغلب ظني أن الفتيات لا يذهبن أبعد من نافذة الغرفة للبحث عن الأفكار (هذا إذا بحثن أصلا) ، استغرقني التفكير مدة لا أقدر على تحديدها ، حتى انتبهت إلى صوت غريب ينبعث عن الفتي بجانبي ، نظرت فوجدته راح في نوم عميق جدا ، نوم له ضجيج غريب و مضحك كاد يطغى على صوت القطار ، و ملامح طفولته المحتضرة تظهر الآن بوضوح ، اختفت نظراته الحادة و محاولات إظهار الرجولة و ظهر الطفل البريء مجددا ، شعرت بالعطف عليه و ربما أحببته (كم أنت رائع أيها النوم ) ، حاولت تعديل وضع رأسه حتى يستريح أكثر قدر الإمكان ، نظرت إليها كانت منتبهة لتصرفي رأيتها تبتسم فابتسمت أيضا ، فضحكت هي ، جميلة بلا شك ، ظلمتها حين وصفتها بمتوسطة الجمال ، ملامحها غاية في الرقة و التناسق ، رأيتها أول مرة بعين الخيال و المرة الثانية بعين اللخمة ، و الآن أن لم أكن أحببتها فأنا أراها على حقيقتها ، أنثى رقيقة لها ابتسامة تذيب القلوب ، أما قلبي فأظن أنه تبخر تماما ، تبدو الآن ودودة و في نظراتها ما يشي برغبتها في الحديث ، ضغط هائل وقع على آلاف الأفكار لفتح موضوع للحديث و لا يوجد عبارات على لساني ، صوت يصرخ بداخلي (أتصرف يا حمار قبل أن تضيع الفرصة).
- أحيانا يكون المرء مضحك في نومه
- .........
أكتفت بالابتسام ، بداية غير موفقة ، اللعنة على لساني الثقيل ، ثم ما هذا الغباء ، آي عبارة تلك التي نطقت بها ؟ و ماذا أتوقع أن يكون الرد عليها ، كنت في غاية السخط على نفسي فالتزمت الصمت حتى تبدأ هي في الكلام ، عجبا لماذا توجه نظراتها نحو عيني ؟ تصرف لم أتوقعه ، حسنا فلتكن حرب أعين أيتها الغامضة ، فأنا المادة الخام للغموض ، لنرى من يضطرب أولا ، طبعا لا تعلمين كم أنا معتاد على هذه المعارك بالأعين ، ربما كان لساني ثقيل معكن ، و لكن الوجه الثلجي لم يهزم من قبل ، اتخذت وضعا أكثر راحة للاستمرار في المعركة أكبر وقت ، نعم هاهي رأسي مسندة إلى ظهر المقعد و يداي معقودتين فوق صدري ، لتواجهي قناع الثلج أن استطعت و لتنظري كما تشائين ، فعيناي الضيقتين أقوي أسلحتي ضدكن .

(13)
لم أتوقع تلك الهزيمة السريعة .. أشاحت بوجهها نحو النافذة بعد أن شدت ياقة معطفها للأعلى بحركة عصبية ، اقتربت بوجهها كثيرا ناحية الشيش حتى ترى من خلال القطعة المكسورة ، فقد طلبت المرأة إغلاقه قبل نومها ، حالي ليس أفضل كثيرا هزيمتها السريعة سخفت انتصاري ، مع ذلك لن أستسلم ، و لن أرجع إلى الجريدة
- هل تشاهدين شيء معين؟ (قلت لها محاولا أن أجعل صوتي الغليظ رقيقا)
- ماذا تقصد ؟
- الظلام يملأ الخارج فماذا ترين
- خيالات
محاورة جيدة بلا شك ، متعلمة و ربما مثقفة أيضا ، أجابتها تحمل لهجة المسلسلات المصرية ، ليكن ، و أن وصلنا لحوارات اللامعقول ، فليس أكثر من هذه الرحلة جنونا .
- الخيالات في الداخل و الخارج
- في الخارج موحية أكثر
- و في الداخل مسلية و مفيدة
- لا أفهم ...
- أقصد البشر في داخل القطار ، آدميون ، لكل منهم مقصد و قصة مختلفة ، تصرفاتهم تعكس بيئات و ثقافات متعددة ، كل واحد عالم كامل منفصل ، إلا ترين هذا
- و لكنهم نائمون ، لا أرى أحد مستيقظ سواك
- و هل أنا ممل؟
- ...... (ابتسمت بمرح شديد و شقاوة كأنها تقول بالتأكيد)
- لا داعي للإجابة ( قلتها ضاحكا)
ها هو حائط اللخمة يتهدم و الأحجار تنسلت من اللسان ، فلأنطلق كما لم أنطلق من قبل ، ابتسامتها تدفعني للحديث بشجاعة لم أعهدها من قبل .
- هل تعرفين كفر الزيات ؟
- لا
- ألم تسافري من قبل للإسكندرية ؟
- لا ، و أنت ؟
- سافرت كثيرا بالسيارة ، هذه هي المرة الأولى بالقطار
- سنتمكن من معرفتها على آي حال
لن أترك حيث السفر يمر هكذا ، و أن خفت أن ترد السؤال بسؤال ، عزمت أن أقول الحقيقة و ليكن ما يكون.
- أتقولين أن هذه أول مرة تذهبين إلى الإسكندرية؟
- نعم
- ظننت أنها موطنك .
- لماذا؟
- لاضطرارك السفر وحدك في هذا الوقت
- أهي موطنك ؟
- أسكن القاهرة ، حي الحلمية الجديدة
- و مع ذلك تسافر وحدك في هذا الوقت
- من الممكن أن يعتبر البعض سفري هذا جنونا
- لماذا ؟
- لأنني سأقطع أكثر من مائتي كيلومتر ثم أعود كل هذه المسافة بلا سبب أو هدف .. شيء غير معلوم قذف بي لهذا القطار ، ربما رغبة في تحدي المجهول
- ربما أنا مثلك
- أنت فتاة
- فتاة .....؟ قالتها بغضب
ظهر الغضب و الاحتجاج على وجهها ، هل أكون أمام أحد المدافعات عن تلك القضية الوهمية ، غبي أنا إذ لم أنتبه إلى ملابسها التي تعكس تشبه واضح بالرجال ، أذن تلك نظرتها للأمور .
- فليكن ، كنت صادقا معك و أخبرتك بسبب سفري الحقيقي ألا تعاملينني بالمثل .
- جئت خلفك
- ......................؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

(14)
قنبلة ألقيت على لم أكن بمستعد لها ، مررت بأعراض لم أعرفها من قبل ، صدمة زعر اجتاحتني ، كدت أحترق من ارتفاع حرارة جسدي ، ظننت أن النائمين سيستيقظون علي صوت دقات قلبي ، سلاسل حديدية شدت لساني ، أحسست بحرقة في عيناي من قطرات العرق المتسللة إليهما و طعمها المالح ملء فمي الفاغر ، لم تفلح محاولاتي في السيطرة علي نفسي ، قمت هاربا ، انطلقت مسرعا لا أعرف للأمام أم الخلف ،فى نهاية العربة وجدت باب صدئ و غرفة صغيرة مظلمة فدخلت ، عرفت من الرائحة أنها دورة المياه ،أغلقت الباب على نفسي و أسندت ظهري إليه و وقفت مكاني حتى اعتادت عيناي على الضوء الشحيح جدا المتسلسل من النافذة ، جففت عرقي عن وجهي و يداي ، أشعلت سيجارة ، فكرت أن أستسلم عند هذا الحد و أنتظر هنا حتى يتوقف القطار في المحطة التالية فأنزل تاركا القطار بمن فيه ، جريدتي و كتبي معها و المرأة و أبنها و جماعة معتادي ركوب قطار الصحافة و الجندي النائم على رف الحقائب .. أعود إلى بيتي لأقضى باقي الليل بين كتبي و أوراقي في دفء المنزل مع الشاي الساخن .
و لكن لما أقبل الإهانة ؟ ، لما أستسلم في معركة قد تكون أسخن المعارك التي خضتها ، نعم ، لم أمر بحدث مماثل و ربما لن يتكرر مرة أخرى ، استحضرت الندم الذي سأشعر به كلما تذكرتها سأعيش تلك الهزيمة مرات و مرات ، لا لن أترك القطار ، سأكمل الرحلة مهما كلفني الأمر ، لن أنتقل حتى إلى عربة أخرى ، بل سأتمها فى نفس العربة و نفس المقعد الذي اخترته في بداية الرحلة ، و على آى حال لا يموت أحد في تلك المعارك .
قمت بقياس كل شيء قبل خروجي ، حتى النقود في جيبي أحصيتها بصعوبة شديدة في الظلام ، تحسست ملابسي أكثر من مرة ، شممت رائحة أنفاسي ، و مررت يداي على شعري عدة مرات ، لمعت حذائي بمنديل ورقى ، أخذت نفسين متتاليين كأنني أهم بالغطس في الماء ، ثم خرجت ، اتجهت بخطى واسعة واثقة إلى مقعدي ، حاولت أن أمسح التعبير الغاضب عن وجهي و أتركه لا يحمل آي تعبير .
و حتى وقتنا هذا لا أعرف ما هو دافعي الحقيقي لاستكمال الرحلة ، هل هو التحدي حقا ، و رفض الهزيمة ؟ أم أنها تلك الرغبة التي تجتاح آي رجل في استكشاف غموض المرأة ؟ أم أنه مجرد الحرص الفطري لدي الرجال على فرص تكوين علاقات مع الجنس الأخر ؟ و لا أظن أنني سأتوصل في يوم للإجابة .

(15)
رأيتها واقفة في الممر بين المقاعد تنظر في اتجاه ذهابي و كأنها تنتظرني ، لم أندهش فما زلت متحفزا و مستعد لتحمل آي مفاجآت أخرى
- خفت ألا تعود
قالتها بنبرة مستكينة جدا ، هل هي مناورة أخرى ؟ لما لا تلقى ما في جعبتك دفعة واحدة ؟ لماذا لا تكون المبارزة الفاصلة الأن بينما أنا مستعد ، لما الإصرار على مباغتتي دائما ؟ ، ليكن ، لتمضى في حوارك بلهجة المسلسلات كما تريدين .
- هل ظننتني سأقفز من القطار مثلا ؟
- بل تمضى لعربة أخرى
- اخترت هذه العربة و هذا المقعد في القاهرة و سأغادرهما في الإسكندرية
- .............
نظرتها متحدية تحمل الكثير من الثقة ، شاهدت أو أحست بارتباكي بالتأكيد ، لعنت حساسية استشعار العواطف عند النساء ، لعلها نسيت هزيمتها في معركة العيون ، كنت نسيتها أيضا ، دفع تذكر المعركة في نفسي بشحنة من الثقة فنحن الآن متعادلان ، لا تظني أنك متقدمة علي ، لما لا تتكلمين الآن ؟ ، ماذا تنتظرين ؟ ، هل تريديني أن أبدأ أنا ، لا .. سأتجاهلها تماما .. لأتظاهر بالقراءة في كتابي .. لا لن أتظاهر سأستغرق في القراءة فعلا ، فتحت الكتاب .. إهداء .. المقدمة ..
- لم تكملي حديثك
- آي حديث ؟
- أخبرتني أنك جئت خلفي (قلتها بنفاذ صبر)
- و هل صدقت ذلك؟
اللعنة على المراوغة و المسلسلات ، و على من نادي بتعليم العقارب و تحريرهن و إطلاقهن علي عباد الله الهائمين فى الكون .
- لم أرى داعيا لعدم تصديقك
- بل صدقتني لترضى غرورك
قالتها بابتسامة غريبة لم أجد لها معنى
- لم أذكر ذلك بل أنت من قلتيها ، و أعترف أنني لا أجد في نفسي ما يدعو فتاة إلى ركوب المجهول خلفي
- لم أركب المجهول ، و أنما القطار (مازال وجهها يحمل نفس الابتسامة )
- القطار أو المجهول أنها مخاطرة على آي حال
لم تجيب ، وطالت فترة الصمت حتى كاد الدم يخرج من عيناي ، و نظراتها المرتبكة تهرب من نظراتي الغاضبة
- لما لا تتكلمي ؟
- ماذا أقول ؟
- الحقيقة .........
- عن آي شيء؟
- لا داعي للمراوغة ، بدئت شيئا فأتميه لا تتركيني هكذا ، تخلى للحظات عن غريزة العقرب تلك ، و كوني كما تحاولين أن تتظاهري
- ماذا تقصد ؟
- تقلدين الرجال ، تصرفي أذن مثل الرجال ، و اذكري الحقيقة
- و هل يفعل الرجال ذلك ؟ ... قالتها بسخرية شديدة
فقدت السيطرة تماما على نفسي ، أصبحت كبركان ثائر مستعد لاجتياح آي شيء أمامي و تحطيمه ، فشلت هي في إخفاء التهدج في صوتها و هي تصيح .
- ماذا ستفعل ؟
- سأحطم رأسك


(16)
خرج منها صوت أظنها أرادته ضحكة فخرج كأنه صراخ أو بكاء ، خانتها جراءتها تماما ، مع ذلك أشتد غيظي فقمت واقفا و هممت بالانقضاض عليها قائلا :
- أتظنني لا أستطيع ؟
- بل تستطيع
قالتها بصدق واضح و نبرة خوف و تسول في صوتها .. طعنتني مرة أخرى بسلاح مختلف (يا ويلنا من قوة ضعف النساء) ، فتحت صمام في نفسي ببراعة شديدة خرج منه الغضب و حل محله الرثاء لها و العطف عليها ، لو كان بيدي لأخذتها في أحضاني و قبلت رأسها معتذرا ، ارتميت على مقعدي مرتبك من النظرات الموجهة نحونا ، تستطلع ما يحدث ، وجهت ما بقي داخلي من ثورة نحوهم و بعثرت نظرات التهديد فلم يجرؤ أحدهم على التدخل و رجعوا للنوم أو الحديث ، لحسن الحظ لم تستيقظ المرأة أو أبنها فهما الوحيدين اللذين يعرفان أن الفتاة ليست برفقتي .
ما هذا الآن ؟ دموع تغطى وجهها بكاء صامت حزين جدا ، رفقا بي سيدتي ، قلبي يذوب ، لا أظن أنه سلاح جديد ، فقد استسلمت فعلا و هزمت و أنا سعيد ، إحساس بالشفقة عليها يملئني ، خفت من رد فعلها إذا رتبت علي كتفها أو لمست وجهها ، أذن فالكلمات هي المطلوبة ، أخرجت علبة لبان من جيبي و قدمتها لها مبتسما ابتسامة مشجعة ، أخذتها ، فقدمت لها منديل ورقى لتجفف دموعها .
- أرجوك سامحيني
- ..............
- أمي تقول لي دائما أنني أهوج و أرعن و لساني و يدي يسبقان تفكيري
- ............ (ابتسمت)
- و لكن ما هذا ؟ هل تصدقين أننا تقابلنا و تكلمنا ثم تشاجرنا و كاد الأمر يصل إلى التشابك بالأيدي ، و ربما كنت سأرمى عليك يمين الطلاق الآن ، و لم أعرف أسمك بعد
نظرت إلى بتعجب و كأنها انتبهت لشيء كان غائبا عن تفكيرها ، انتقلت ببطء من البكاء إلى الضحك ، ثم الضحك الشديد (ضحكتها رائعة ) ضحكت أنا أيضا ، مدت يدها لنصفق كفينا ، لمستها برفق شديد و مع ذلك أنتقل ليدي الإحساس بنعومة بشرتها .

(17)
توقفت فجأة على عادتي عندما أضحك أو أبتسم ، فقد مرنت نفسي ألا أمر بتلك المراحل ككل الناس و أنما يكون التوقف عن الضحك عندي حاد و مفاجئ ، لإحساسي بسخافة تلك المراحل ، لم يلفت هذا نظرها .
- أحمد
- مها
- أسمك جميل ، هل تعرفين معناه؟
- بالطبع أعرف ، لماذا لديك شك في معلوماتي ؟
- و الله لم أقصد ، أرجوك دعينا نجعل حوارنا هادئا بعض الوقت على الأقل
- .........
- هل انتبهت أن بنطلوني مماثل تماما لما ترتديه اللون و الماركة و الموديل .
أحمر وجهها و لم أتبين أن كانت حمرة الخجل أم الغيظ ، خفت أن تظن بي ظن سيئ فتشبيهي جاء في مكان خاطئ ، لو كان الجاكيت لكان الأمر أهون ، طالت فترة الصمت قليلا و أنا قلق و لكن منتظر ردها ،
- و هل لهذا معنى خاص لديك
قالتها بلهجة هادئة فيها بعض الغموض ، لم تغضب أذن ، لأنطلق بالكلمات المبهرة فقد جاء وقتها
- فقط أثار هذا خيالي ، تصوري معي زوج من الراقصين يرتدون ملابس متماثلة في كل شيء حتى غطاء الرأس ، يؤديان رقصة مجنونة على موسيقى صاخبة جدا في مكان منعزل جدا ، شاطئ على جزيرة مهجورة ، غابة مليئة بالوحوش ، مجاهل الجبال و الصحراء ، المهم عدم وجود للبشر حولهما كل شيء خارج عن القواعد و العادات و المألوف ، هما فقط من يضع قوانينهما الخاصة ، و محددات تصرفاتهما بعقليهما أو بجنونهما ، و حدهما مع دوي الموسيقى و جنون الرقص .. و الحب
لم ترد بدا عليها أنها تستعيد كلماتي في ذهنها مرة أخرى ، خفت أن تكون قد قرأت الرواية التي استعرت منها بعض جمل ، و لكن يبدو أن حديثي نجح في التأثير عليها فهي ليست غاصبة ، بل مبتسمة ابتسامة عذبة جميلة جدا ، و لكن خصلات شعرها الرائع الملعونة حجبت عنى عينيها فعجزت عن رؤيتهما برغم من أنني لم أتمنى النظر في عيني فتاة من قبل كما أتمنى النظر في عينيها الآن .
- هل ما زالت لديك الرغبة في إكمال حديثي
- آي حديث ؟
- لا تدعى أنك نسيت
- بل أتناسى ، صراحة لم تخفت رغبتي في سماعه بل ازدادت ، و لكن سأنساه إذا طلبت منى ذلك
أمسكت بيدها كتعبير عن صدقي و أنا أقول العبارة الأخيرة ، رفعت خصلات شعرها بيدها الأخرى و نظرت لي تلك النظرة التي لن أنساها ما حييت ، أردت أن أصرخ بقوة مصرحا لها و للعالم أجمع بحبي لها ، تركت يدها في يدي تتلامسان برفق شديد و اقتربت برأسها منى فاقتربت أيضا
- توقفت عندما قلت أنى جئت خلفك ، و كانت مفاجأة لك ظهر تأثيرها واضحا .
تركت يدها و أسندت ظهري للمقعد مرة أخرى
- ............
- لقد كنت صادقة ، و ليس لدي سبب للكذب عليك (صمتت فترة بدت طويلة فلم أستحثها ، و شحذت صبري حتى واصلت حديثها )
- رجعت للبيت مع أبي و أمي في الحادية عشرة ، كان لدي شعور بالضيق بلا سبب ، دخل والداي ليناما ، وقفت بالنافذة قبل أن أستبدل ملابسي ، كنت أستمتع بالبرد و برؤية المارة القلائل في الشارع .
- أين تسكنين ؟
- أخر شارع البستان ، نافذتي تطل علي ميدان التحرير و شارع البستان ، رأيتك فلفت نظري طريقتك في المشي ، كانت مشية هادئة منتظمة كأنك تتنزه و الكل يسرع لمأواه اتقاء للبرد الشديد ، كنت كأنك تسير في عالمك الخاص ، لم يظهر عليك أنك تأه أو سكران أو مجنون بل الكثير من الاتزان و الثقة بالنفس
- كل هذا في خطواتي
- و أكثر ، إحدى هوايتي هي النظر على المارة من نافذتي و دراسة خطواتهم ، تقدر تقول أنني متخصصة خطوات ، و أول ما يلفت نظري و كثيرات مثلى للرجل ما هو طريقته في المشي
- كنت أظن أنها مظاهر الثراء هى ما يلفت نظر النساء
- لن أعارضك ، و لكن مظاهر الثراء تعنى من تبحث عن زوج ، و أنا لم أكن أقف فى النافذة متطلعة إلى الشارع لأبحث عن زوجي المستقبلي سائرا في مثل هذه الساعة .
- ليتك تكملي حديثك
- و هل أنت متشوق لسماعه؟

(18)
بدئت تستفزني مرة أخرى ، متى تكف عن هذا كتمت غيظي قائلا
- نعم ، و أتوسل إليك أن تتميه
- ليكن ، شاهدتك تنعطف فجأة بعد أن كنت متجها فيما يبدو نحو كوبري قصر النيل ، غيرت اتجاهك بصورة قاطعة و كأنك عزمت أمرا ما ، فقررت أن أعرف سرك و إلى أين أنت ذاهب ؟ ، أخذت بعض النقود حتى أركب تاكسي إذا بعدت عن البيت كثيرا ، وضعت مفتاح المنزل في جيبي و أسرعت بالنزول ، أضطررك للعدو حتى أصل لمسافة قصيرة منك فقد كانت خطواتك أسرع مما ظننت فقطعت مسافة كبيرة خلال وقت نزولي
- ألم تخافي؟
- بالطبع كنت خائفة ، فهذه المرة الأولى التي أسير بها وحيدة في مثل هذا الوقت و لكنني احتميت بك
- ........
- سرت قريبة جدا منك ، خلفك تماما و كلما نظر إلى أحد المشاة أو أبطأ بجواري سائق سيارة وجهت نظري ناحيتك لأوحى إليهم أنى برفقتك
تذكرت إبطاء أكثر من سيارة بالقرب منى بينما أسير في شارع رمسيس
- و لجسدك الضخم مفعول ممتاز في أخافتهم
- لكنني لم أشعر بك
- هذا من حسن حظي ، فقد كنت تبدو منشغل الفكر جدا
- و ربما لسؤ حظي أنا
- كيف؟
- لو شعرت بك لما فكرت فى ركوب القطار
- ماذا كنت ستفعل ؟
- أظل سائرا لمدة طويلة حتى أصل لمكان منعزل تماما و أواجهك
- ماذا كنت ستظنني ؟
- بلا غضب أو زعل
- نعم
- فتاة ليل
- و لكن هل في مظهري ما يشي بذلك (قالتها بغضب شديد)
- وعدتني ألا تغضبي و لتعلمي أن في السلوك أحيانا ما يغنى عن المظهر
- و هل سلوكي يبدو كغانية (بغضب أشد)
- ماذا تتوقعين أن أظن حين أجد فتاة لا أعرفها تتبعني في هذا الوقت من الليل ، أظنها مخبر شرطة مثلا ، أو مذيعة تريد منى حديثا ؟
قلت كلماتي بتأنيب شديد و بصوت منفعل فظهر عليها الهدوء و رجعت بظهرها للمقعد و فعلت المثل .
- لم تقولي لي كيف ركبت القطار؟
- كما فعلت أنت
- ألم تترددي ؟
- ترددت بالتأكيد و لكن أحببت أن أكمل ما بدئت
- لعلك خفتي أن تعودي وحدك
- ربما ... لا.. لا بالتأكيد لم أخاف
أجد عقلي رافضا الكلام ، و لكن نفسي تأبى ألا أن تصدق كل حرف مما قالته ، ليس فى نبرات صوتها ما يشى بالكذب و كذلك معرفتها لخط سيرى قبل ركوب القطار يؤكد صدقها
- ما زلت تدرسين طبعا ؟
- الفرقة الثانية كلية الآداب قسم فرنسي
- آي جامعة ؟
- القاهرة
- أذن فنحن زملاء فأنا في كلية التجارة الفرقة الرابعة ، ربما نكون قد تلاقينا من قبل و أكثر من مرة أيضا فأنا أذهب كثيرا إلى الآداب
- لا أظن ، ربما لا تنتبه أنت لي ، و لكن كنت انتبهت لك بالتأكيد
- لماذا ؟
- يجذب نظري دائما العمالقة (قالتها ضاحكة )
لم أعرف أن كانت فعلا معجبة بحجمي أم تسخر منى ، و لكنى بلا شك معتاد من صغري على مثل هذه المزحات
- ليدك أصدقاء من كلية الآداب ؟
- كثيرون
- كثيرون أم كثيرات (قالتها بمرح خبيث)
- لا لا و الله لست من هذا النوع ، كل أصدقائي في الجامعة من الشباب فقط
- تعصب لجنسك؟
- لا بل تورط في وعد عند دخولي الجامعة بعدم مصادقة آي فتاة
- وعدت فتاة طبعا
- استنتاج ذكى جدا (قلتها ضاحكا)
- أذن فأنت الآن تخلف وعدك
- لم أقابلك في الجامعة بآي حال
- هل صاحبتك هذه ليست طالبة ؟ (ثمة نبرة غيرة كما هيئ لي في صوتها)
- كانت في الثانوي عند دخولي الجامعة
- و الآن في جامعة أخرى؟
- لا ، توفيت منذ عام و بضعة أشهر، قبل أن تصل للجامعة
- ...... تقصد افترقتما فماتت بالنسبة لك
- لا ماتت فعلا و ذهبت لربها
- .........
- ربما كان هذا هو دافع أقوى لتمسكي بعهدي لها
يعلم الله أنني لا أكذب عليها الآن ، فأن كنت قد خنت هذا العهد خلال حياة حبيبتي الأولى إلا أنني لم أخونه في موتها أبدا ، و لكن هل أخطأت بحديثي عن حبيبتي .

(19)
بدا عليها واضحا الاهتمام الذي ربما شابته بعض الغيرة و أن كنت لم أتأكد ، طلبت منى أن أروى لها حكايتي ، من هي حبيبتي و كيف توفيت ؟
كانت أبنة عمتي خطبتها و عمري أربعة سنوات و مازالت في رحم أمها ، لحبي الشديد لأمها ، تعجب الجميع عند ولادتها كيف عرفت أنها فتاة طلبوا منى وحدي أن أختار لها أسما و اخترت أسم "جميلة" و برغم امتعاض الجميع من الاسم ذو الموضة القديمة أطلقوه عليها صاغرين أمام تصميمي و ظنهم جميعا أنني في هذه السن من أصحاب الحظوة أم (المكشوف عنهم الحجاب كما يقولون) و ياليتني كنت ، و كان الاسم على مسمى بالفعل فما أن بدئت تتشكل ملامحها حتى تأكدت العائلة أننى بالفعل عارف بالأشياء و اكتسبت أهمية عظيمة في هذه السن المبكرة ، حتى أن أبي و بعض أصدقاءه كانوا يأخذون برأي في الصفقات التجارية و كنت أقول أمرا افعلوا أو لا تفعلوا بالرغم من أنني لم أكن أفهم عما يسألونني شيئا .أخذت على عاتقي برغم سني المبكرة الاهتمام بكل شيء في حياة "جميلة" كنت الأخ الأكبر لها و أقرب لها من الجميع نظرا لأن أخوتها جميعا يكبرونها بفارق سن كبير كانت أمها دائما تقول أنها جائت في الوقت الضائع و كانت تغضبني هذه العبارة لأنني لم أكن أفهمها ، فاجائت هي الجميع عندما نطقت أسمى قبل حتى أن تتعلم نداء أمها ، كانت تترك الجميع لتلبى ندائي أنا و كانوا يتندرون علينا و كثيرا ما صورونا معا متماسكي الأيدي كصور الزفاف ،

(يتبع)

٢٤ أبريل ٢٠٠٧

ع الطريق
(3)
مقابر الأمام الشافعى - 12 يناير 1998
هو


(1)

رأيتني معه "هو" في شارع فسيح ، كان الشارع مفروش بالحصر الأخضر البلاستيك (فأوقفنا السيارة خارج الشارع بعيدا عن المسجد) استعدادا لاستقبال المصلين ، بدا أنه سيستقبل الآلاف منهم ، أبدى "هو" استعداد للمساعدة في فرش الحصر و تغطية المساحات الظاهرة من الإسفلت بل شرع فعلا في ذلك ، وقفت أتفرج عليه و لم أساعد ، توقعت أن يكون داخل الجامع مزدحما نظرا للاستعدادات بالخارج ، بدا عكس ذلك تماما ، يكاد يكون خاويا ، قابلت "الأخر" يخرج من المسجد حاملا حذاءه قبل أن تبدأ الصلاة ، توقعت أنه سيصلى بالخارج (و لم أفهم لماذا؟) ، سلم على باشتياق أصدقاء مضى زمن على أخر لقاء ، بدا رث الملابس على غير العادة ، توقعت أن يطلب منى أن ألاقيه بعد الصلاة خارج المسجد و لكنه طلب موعد للأسبوع القادم ، أتغرز نابه في خدي و أنا أقبله مودعا ، أختفي "هو" من جانبي عند بدء الصلاة ، بدئت الصلاة و الأمام يجلس ظهره للقبلة وجهه لنا (و لا أحد يستنكر) ظننته قعيدا لا يستطيع النهوض بدا ضئيل وهو جالس بعباءته البنية و شعر لحيته الخفيف و الطويل جدا و عينيه العسليتين ، كنت أصلى في الصف الثاني ، مع أول ركعة أخطاء الصف الأول فغضب الأمام غضبة شديدة و قام واقفا فبدا عملاق عكس ما كنت أظنه وطلب رجوع الصف الأول للمؤخرة فوجدتني في المقدمة أكاد أكون أنا الأمام ، كانت جارية الأمام تنظم الصفوف ترتدى رداء غير محتشم بالنسبة للمسجد كان جسدها جميلا أما وجهها فكان قبيح جدا ، فجأة أختفي الجميع ووجدتني مرة أخرى مع "هو" وحدنا كان يختم صلاته مبتسما و كنت أحاول أيجاد القبلة لأصلى و كان يرشدني و بدئت أخيرا مع عدم وثوقي في اتجاه القبلة ، انتهيت سريعا وجلست أختم صلاتي مع "هو" كان المسجد خاويا ألا منا ، دخل شخص يبدو عليه البله كان وجهه يشبه وجه الأمام و لكن بدون لحية يرتدى بنطلون بيجامة مع تى شيرت أحمر ملابسه غير مهندمة و لكنها نظيفة جدا مثل وجهه بدا أنه خرج لتوه من حمام طويل ، كان يمسك بيده مسدس صغير جدا مثل الألعاب صاح بصوت ولهجة مضحكين موجها مسدسه باتجاه "هو" (طلقة رصاص) ثم أطلق كان الصوت ضعيف غير مدوي كنت مازلت أضحك حتى رأيت "هو" يسقط متألما بدت عليه معانة الألم الشديد ،وجه المجنون المسدس نحوى و أطلق نفس الصيحة، سكين من الرعب أنغرز في قلبي بقوة رعب لم أشعر به في حياتي حتى أثناء مواجهتي للزلزال لأول مرة ، تحركت سريعة متدحرجا على الحصر فلم تصبني الأولى فأطلق ثانيا و أنا أبتهل لله أن ينجدني و بالفعل تعطل مسدسه و لم يطلق ، نظرت إلى هو فوجدته جامدا فأيقنت بموته فقمت غاضبا أضغط على أسناني ، أواجه المجنون أنطلق يعدو خارج المسجد و أنا وراءه كانت مطاردة طويلة جدا شوارع واسعة وحواري مبلطة و فوق سور القاهرة ثم تلال من أحجار ثم منطقة رمال عبرت فوق الكل حافي القدمين كما خرجت من المسجد، حاول أكثر من مرة أن يستدير و يطلق على و نجح مرتين أو ثلاثة و لكنه لم يصيبني ، أخيرا أمسكت به بجوار طفح المجارى أمام قسم الشرطة ، غرزت أسناني في رقبته و كلما تأوه زاد ضغطي ، حتى استكان تماما ، ربما مات ، ذهب الغل و هدأت فوجدت "هو" قادم علي وجهه ابتسامة جميلة ، فعرفت أنه راحل صحت فيه .........لا تتركني .
(2)
عدت إلى المسجد ، مازلت حافي القدمين "هو" يمشى خلفي ، طلبت منه مرات أن يمشى بجواري ، لم يرد ، دخلت لمكان الوضوء
غسلت الدماء عن وجهي و توضأت و حاولت أن أهندم ملابسي كنت أتكلم مع "هو" أثناء ذلك لم يرد مرة واحدة و ظللت أتكلم شئ ما تغير في وجهه يبدو أن ملامحه تطمس شيئا فشيئا ، مع ذلك لم أتعجب بل وجدت التغيير أجمل شئ ما فى شكله الجديد يشعرني بالراحة ، اقترحت عليه أن نذهب للمقهى أومأ إلى الجثة الموضوعة بجوار باب المسجد من الداخل ، كان فعلا ثمة جثة للرجل موضوعة في الكفن و مجهزة للدفن و لكن لم تكن في خشبه كما جرت العادة ، بجوار الجثة بعض الناس نظرت لوجوههم أعرفهم جميعا ترددت في الذهاب للتعزية أو حتى إلقاء التحية نظر "هو" إلى فهمت أنه لا يريد الذهاب ، علا صوت المؤذن بالأذان تأهب هو لصلاة السنة ، أحسست بطعم دم المجنون مازال في فمي فعدوت مرة أخرى إلى الميضة و توضأت مرة أخرى ، وجدتهم أقاموا الصلاة سريعا لم يكن المسجد مزدحما لم تتجاوز الصفوف ثلاث مع ذلك وجدت الجميع يدفعني برفق إلى الصف الأول وقفت و كان "هو" بجانبي تماما و أن كان كتفي يلامسان شخصين آخرين كانت الصلاة صامتة فعرفت أننا نصلى الظهر أو العصر ، أنهى الأمام الصلاة سريعا وجدت من يحتضنني كان رجلا مهيبا أعرفه (أبكى يا أبني ما تعملش كده في نفسك) قلت (حاضر) لم أفهم لماذا يريدني أن أبكى مع ذلك بكيت حتى جاءني "هو" لم يتكلم و فهمت أنه يعاتبني على البكاء ، وجهه صار أجمل كثيرا ، حمل البعض جثة الميت بدون خشبه ووضعوها قريبة من محراب الأمام ، وقف الأمام على رأس الميت ناظرا إلى المصلين شارحا صلاة الجنازة (صلاة الجنازة أربع تكبيرات في الأولى نقول التشهد و و بعد التكبيرة الثانية ندعو......................) كان يتكلم سريعا جدا لم أتعلمها بعد و بدء الصلاة نظرت إلى "هو" مستنجدا فطمئنني صاح الأمام (الله أكبر) صاح الجميع ورائه (الله أكبر) قلتها بصوت خفيض جدا لم أستطيع لسبب ما أن أعلو بصوتي رهبة الوقوف بين يدي الله تمنعني من الصياح مثلهم (الله أكبر) التكبيرة الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة فالسلام عليكم مرة واحدة فعلت مثلهم بدئوا يعدون للجنازة و ذهب جمع من المصلين لركن من المسجد ليقيموا الحضرة ، انجذبت للركن الحضرة بدئت على الفور كان ثمة منشد قوى الصوت جميله يبكى صوته بكاء عذبا مع بردة الأمام البوصيرى (محمد أشرف الأعراب كلهم ) ينشدها بمصاحبة أربعة رجال يكررون رتم بلهجة سودانية لا أعرفها و أن كنت أميز بعض ألفاظها و الباقين يرددون بإيقاع منغم (لا أله إلا الله) ، أسرع "هو " آلي دعاني لأشترك في الجنازة حاولت أن أذكره بحبي الشديد لهذه القصيدة و هذه الحضرة و طريقة الإنشاد رفض تماما في حسم فقمت معه الكثير من الأيدي ساعدتني على النهوض برغم عدم احتياجي ، خرج الميت أولا موضوعا في خشبه الآن ، دخلت الخشبه السيارة الكبيرة و ركبنا سيارتي جلس "هو " بجانبي و دخل أخر بجواره تعجبت كيف يسعهما هذا الكرسي ، عرض أحد ما على أن يسوق بدلا منى نظرت إلى "هو" فرفض فرضفت أنا أيضا سرنا خلف السيارة الكبيرة بهدؤ و مهابة حتى المقابر القريبة جدا من المسجد ، كانت التربة مفتوحة و نصف جسد التربى يطل من فسقيتهة شاهد التربى أوراقا مع أحدهم ثم سمح بفتح الخشبه علا صوات بعض النساء و بعض الرجال ينهرهن ، امتدت بعض الأيدي تسندني فصحت فيهم أن يتركوني ففعلوا دعاني "هو" للنزول إلى التربة فنزلت لحظات بالداخل لم أرى شيئا حتى اعتادت عينى على الظلام تلقفنا الجسد مع التربى و الرجل المهيب يتلو آيات من القرآن عدلنا وضعه و فك أحدهم الأربطة السبعة ثم أمسك الرجل المهيب بيدي لأخرج فأذعنت له ، بدء التربى يغلق القبر كدت أضربه أو أقتله فـ"هو" لم يخرج بعد فوجدت "هو" يمسك بيى ليمنعنى من قتله ، الجميع يربت على كتفى و يدعونى بالصبر و البعض ينصحنى بالبكاء ، أمى توصى أصدقائى ألا يتركونى وحيدا مهما حدث ، و أنا لا أفهم ربما يكون الميت أحد أقاربى ، أنتهت أجراءات الدفن و العزاء و غادر الجميع الحوش و سحبني الرجل المهيب بهدوء نظرت إلى "هو" فوجدته مازال واقفا عند القبر لا يبرح مكانه هممت بالعودة فرجاني الا أفعل خرجت مع الرجل المهيب بهدؤ فقد فهمت أن "هو" لم يعد صديقي الآن ........... فبكيت

١٧ أبريل ٢٠٠٧

كوهين يدخل الجنة



بسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا )
صدق الله العظيم
سورة الواقعة ، الأيات 25، 26



لأول وهلة لم يصدق كوهين نفسه .. فها هى الأشارة تسمح له بالمرور فى طريق مخالف لكافة أهله .. نعم .. ها هو يسير مع السعداء و تستقبله حور العين مع من تستقبل .. يرى الأنهار و الحدائق و قصور الذهب .. لم يفكر كوهين كثيرا فى حاله و لم يضيع وقته و لم يكدر سعادته بالتسأول عن مغذى وجوده هما ووجودهم هناك .. أستمتع مع أهل المكان بما حوله .. غاص فى أنهار الخمر و العسل .. شاهد و ذاق و سمع ما لا عين رأت و لا أذن سمعت .. سكن القصور و عاشر حور العيون و خدمه غلمان كالؤلؤ المكنون .
لا أحد يعرف لا هو و لا أنا و لا آى شخص كم مر عليه من الوقت و هو يشعر بالمتعة الغامرة ؟ .. فبل أن يتحرك أو يستيقظ شئ ما بداخله يتملل من ثباته .. ففى لحظة ما أو وقت ما حيث لا وجود للوقت أو الزمن قرر كوهين أن يفعل شيئا .
* * *
- مرحبا يا عبد الله (قالها كوهين ملاقيا أحد جيرانه)
- سلاما يا كوهين
- أريد أن أصنع معك صفقة أو معاهدة
- هات ما عندك يا أخى
- ما رأيك لو أستبدلت معك يوميا الماء بالعسل .. تعطينى أنت الماء و أعطيك أنا العسل ..ط
- لا مانع و أن كنت لا أفهم فالماء و العسل متاح للجميع
- نعم و لكن نهر الماء قريب من قصرك و نهر العسل قريب من قصري فما المانع فى التبادل
أستوقف الحوار أحد الحراس و لكن شعورا بالريبة لم يراوده ذلك لطبيعته الملائكية و كنه شعر بغرابة ما يحدث على المكان.
- هل أحضرت الماء ؟
- نعم . ها هو أناء من الماء

العذب من النهر
- أناء واحد من الماء ؟ (قالها كوهين مستنكرا)
- أراك أحضرت أناء عسل واحد أيضا
- يا أخى ، قلت لك العسل مقابل الماء و لم أحدد الكمية ، كان عليك أن تفهم العسل أعلى قيمة من الماء ، و الماء أدنى قيمة من العسل ألا تذكر حياتنا الدنيا على الأرض هل كان أناء الماء بأناء عسل .
- لسنا على الأرض بآى حال ، أليك أناء الماء و لا أريد منك شيئا يا أخى
- هل تنقض المعاهدة ؟
- خبرنى بما تريد
- سأستبدل معك يوميا أناء العسل بثلاثة أمثاله من الماء ، مع العلم أن قيمته تزيد عن عشرة أمثال.
- لا أفهم ، يطوف الغلمان بالأكواب بجانبى طوال الوقت و أخذ ما أشاء
- ألا تفهم متعة المبادلة ، و متعة أختزان المتاع و السلع ، ألا يمكن أن ينفذ نهر العسل ، و قتها تجد ما قمت بتخزينه
- نعم لا أفهم .. كفانى من هذا و أنا كائن أرضى دنيوى .. سلاما
- إلى أين ؟
- إلى نهر العسل يا أخى سأجلس على ضفته و ربما أسبح فيه قليلا أنا و أسرتى جميعا و نشرب منه ما نريد ، و لن ينفذ بأمر العلى القدير
و لثانى مرة يسمع الحارس الملائكى شئ غريب عليه تماما ، و وجد نفسه يتسأل أن كان ما سمعه عو ما يسمى جدلا ؟ ثم ما معنى كلمة قيمة ؟ و يردد فى نفسه أعلى قيمة .. أدنى قيمة ، ثم ما المقصود بالمبادلة و المعاهدة ؟ أخذته حيرة شديدة فأستعان بالله و سجل ما دار بين الرجلين بدقة و أخذه إلى كبيرهم .. و أعتٌبر هذا أول جدلا يحدث بالجنة .
* * *
لم يسترح كوهين .. أستغربن الحوريات حالته .. حاولن التسرية عنه بالغناء و بدئت أحداهم بالغناء بصوت لا يمكن أن يكون هناك وصف لجماله .. لم ينتبه للغناء ظل شارد الذهن يلوم نفسه ، يالى من غبى كم كانت الفكرة حمقاء فسواء العسل أو اللبن أو الماء و حتى الخمر كل موجود بوفرة و بكميات لا تحصى .. صدق الرجل لم نعد على الأرض و كل شئ هنا متوافر بكثرة ، أنتبه إلى صوت الحورية المغنية
- ما أعذب صوتك
قالها و عينيه تبرق ببريق غريب على الحورية و لم يري أحد أهل الجنة مثله من قبل
- سلاما يا أخى (قالها كوهين داخلا على جار أخر)
- سلاما يا أخي
- أريدك فيما هو خير لك
- جزاك الله خيرا .. قل ما لديك يا أخى
- ما رأيك لو أسبدلت معك حورية من حورياتى جميلة و لها صوت عذب لم تسمع مثله من قبل
- أعطانى الله جل و على منهم الكثير
- و لكنها ليث لها مثيل أن لها وجه لا تمل النظر إليه
- أكرمنى ربى بمثلها ، جعلهن الله جميها جميلات لا يمل المرء النظر إلى وجوههن
- صدقنى ، لا أخفيك سرا ، أن جسدها أنعم من الحرير (ثم مخفضا صوته و بنبرة خبث ) أنها ترتد عذراء بعد كل مرة
- اللاتى عندي يفعلن دلك
- لعابها له طعم الفاكهة
- مثل التى عندى أيضا
- و صوتها ألم أقل لك
- (يبدو عليه الحيرة و عدم الفهم) يا أخى سأوافق على المبادلة حتى أريحك فقط
- أذن أتنى بأثنين من حور العين لديك و سأحضرها لك حالا
- و لماذا أثنتين ؟
- أقسم أنها تساوي أكثر و لكنى سأكرمك للتعامل الأول بيننا
- أن كنت تريد أثنتين فلم لا تسأل الله أن يعطيك أنهن كثيرات و لكل ما يطلب و يشتهى .. أخبرنى ما أسمك يا أخى
- كوهين
- (نظر إليه الرجل متعجبا ) أرفض المبادلة (قالها بحسم)
- كما تشأ أذن سأستبدلها معك بواحدة على أن أختارها بنفسى
- أرفض المبادلة
- سأعطيك معها الكثير من الملابس و الحرير لها و لك أيضا
- لا
- وفوق الملابس لدي خاتمان من الماس خذهما أيضا
- لا . دعنى لشأنى . سلاما
و كان المحارس يرصد هذه المرة الحوار و يسجله بأمر من كبيرهم ، و سُجلت المجادلة الثانية فى الجنة.
* * *
كان كوهين يشعر بأحباط كبير فى طريق عودته .. تسأل فى نفسه عن سر النظرة المندهشة فى عينى الرجل عندما أخبره عن أسمه .. من فوق محفته الطائرة شاهد منزله من بعيد .. يبرق وسط المروج الملونة ببريق الذهب و الفضة و الجوهر.. أعجبه المشهد يالأرتفاعه الشاهق و فرشه الحريرية ، البُسط الناعمة و الفرش الوثير و النافورات المضية المغردة ، فكر أنه منزل يستحق أن يتسابق الجميع فى الحصول عليه .
بمجرد التفكير فى الهبوط نزلت به المحفة فى نعومة أمام المنزل ، شاهد قوم سائرون يتناجون سعداء.
- إلى أين يا أخوانى ؟
- سلاما يا أخى ، نحن فى طريقنا لزيارة أهلينا
- تفضلوا لمنزلى لتستريحوا
- نشكرك يا أخانا لا نشعر بالتعب
- أرجوكم ، أصر أن تدخولوا لتشاهدوا قصرى الجميل
- نحمد الله جميها على أكرامنا ببيوت فى الجنة ، لا مانع فلندخل
دخل القوم سعداء له بما أعطاه الله ، مضى بهم من غرفة إلى غرفة فى البيت الذى دعاه قصرا أبدي الجميع أستحسانهم شاكرين الله رب العالمين على أكرامهم ببديع صنعه ، أبدي كوهين سرورا غير معروف لأهل الجنة لأستحسانهم بيته .
- ما رأيكم فى قصرى
أنطلقت عبارات الأعجاب بما صنع الله و كل منهم يخص جزء من البيت بالمديح و الكل يشكرا الله شكرا كثيرا
- و الأن من منكم يريده ، و ماذا يعطينى مقابله
- أنا مستعد أن أستبدله معك ببيتى
- لاحظ أن به النافورة صانعة الموسيقى التى أعجبتك
- نعم ، كم أحبها
- أيضا سيزورك أصدقائك كثيرا لأن لكل منهم جانب يعجبه من القصر
- نعم ، سيزورنى أحفادي هؤلاء و سأكون سعيدا لقضائهم عندي وقت يمتعهم
- سأستبدله معك ببيتك و عليك أن تعوضنى ببعض الجوهر عن الفرق
- آى فرق؟
- بين قصرى و بيتك فقصرى قيمته أعلى
- لا يا أخى بيتى له نفس الأرتفاع أيضا
- أقصد أعلى فى القيمة ، أعنى لو أستبدل كل منا قصره أو بيته بالمال فسيكون ثمن قصرى أعلى من ثمن بيتك .
- ثمن ؟ عما تتكلم يا أخى . ما هو هذا المال؟
شرح أحد الأحفاد لجده معنى المال و القيمة و الثمن و كيف أن هذه الأشياء أستحدثت فى الحياة الدنيا بعد موته ، وقف الرجل حائرا لا يفهم شيئا .
- هه ... ماذا قلت يا سيدي؟
- هيا يا أبنائى لنمضى فيما كنا فيه قبل مقابلة هذا الرجل ، سلاما يا أخى
- أنتظر يا أخى ، دعك من مقدار المال الزائد ، قصرى مقابل بيتك فقط .
- بدئت محفاتهم ترتفع و عبارات السلام تلقى على كوهين و هو مازال يزايد و يساوم
* * *
مضى الملاك مسرعا بالمجادلة الثالثة إلى من هو أعلى منه ، و أتُخذ قرار ما ، فذهب ملاكان صارمان إلى بيت كوهين و أمره أحدهما بالأسراع معه ، مشى كوهين و هم ورائه يأمرونه بأتجاه السير ، فهم أنهم فى الطريق للخارج ، دمعت عينه حزنا على النعيم الذى عاشه فى الفترة الماضية ، و لكن لاحت فى عينيه نظرا ما ، وشت بأحساس مستحيل أن يراود من كان فى مكانه و موقفه ، بل أجدنى محرج و أنا

أقول أن كوهين كان يشعر ...... نعم كان يملاءه شعور.......... بالراحة .
تمت بحمد الله



محمد البدرى




١٥ أبريل ٢٠٠٧

ع الطريق
(1)
محطة مترو الميرغنى – 1992
مرضان

كان علي يومها أن أصل مصر الجديدة خلال ساعة على الأكثر ، عمل جديد و مدير غتيت كاعادة ، لاوقت أذن لتناول الغداء برغم جوعى الشديد لم أجد فى الميدان الكبير سوي كشك السجائر فشتريت بسكويت بالشيكولاتة ، و جلست أنتظر المترو ، أخرجت الأولى من جيب المعطف و أخذت فى أكلها ببطء حتى تعطينى أحساس بالشبع .

كان بجانبى و أن كنت لم أنتبه هل سبقنى أم لحق بي ، قذارته يصعب وصفها ، بيده عقلة قصب أحترت أن كان وجدها بهذه القذارة أم أن يديه هى التى أصابتها بالوسخ ، بللت عصارة القصب مع ريقه ذقنه و أخذت الأوساخ نازلة حتى رقبته الدقيقة لتصنع كتل صغيرة سوداء مقززة ، كما ساهم أنفه النزناز فى طمس ملامح طفولته الشديدة الروعة ، و هذا حال وجهه فلا أجد داعيا لوصف أثماله أو قدميه الحافيتين .
نظرت لكتلة القذارة بجانبي فبادلتنى النظر بعينين لامعتين لونهما عسلى رائق (كم أنت رائع فى خلقك يا الله) ، كان عينيه أية فى الجمال و كأنهما ماستين لا تستطيع الأتربة و الأوساخ أن تنال من تألقهما ، أخرجت الباكو الثانى من جيبى و مددت يدى فى أتجاهه ، كم كنت جبانا منحطا حيث خشيت أن تتلامس أيدينا ، نعم خشين أن تصاب أطراف أناملى من لحوسته ، أخذها بدون شكر ، و بنظرات ممتنة ، عله لا يعرف كلمات شكر . وضع عقلة القصب بجانبه ضحكت فى نفسى ، فلن يصيبها المقعد الحجرى من الوسخ بأكثر مما أصابتها يديه ، و تذكرت أمى كيف كانت تمنعنا من أكل آى شئ سقط على أرضية المنزل شديدة النظافة .
بحرص شديد حاول فتح الغلاف و لم ينجح نظر نحوى و مد يده
- أفتحها لى .
قمت بما طلب غير عابئ هذه المرة بما أصاب الغلاف ، أخرجت منديل ورقى ، و قدمته له .
- أمسح أنفك .
أستجاب بلا ممانعة بل بدا ممتنا ، وجد صورة بداخل الباكو .
- شوف لقيت أيه ، أنت عندك ألبون ؟
- لأ ، و أنت ؟
- ماعنديش لكن نوسة عندها
- طيب ، أعطى الصورة دي لنوسة
- لأ أنا هأجيب ألبون عشان أكسب الكمرة أو الأتارى ، فين الصورة بتاعتك ؟
بحثت عن الصورة حولى كانت داخل الغلاف الذى ألقيته على الأرض بجانبى أخرجتها له و فردتها جيدا فوضعها مع صورته بحرص فى جيب أثماله ، و قام واقفا فجأة و أستعد كمن سيلقى خطبة ما
- مش هأكسب كمرة و لا أتاري ، هأكسب فديون و مش هأخلى محسن المعفن يشوف معايا
- محسن مين ؟
- عم محسن المعفن (أكتشفت فيما بعد أن هذا فعلا ما ينادي به محسن صبى القهوة) فى القهوة عند الكابتن حلمى (الكابتن حلمى لاعب كرة سابق جدا و صاحب قهوة الأن) ، كل ما أقعد علشان أشوف الفيلم الهندي بتاع أميتا بشان يروح طاردنى على طول .
- ساكن فين ؟
- مع أبويا و أمى .
- فين يعنى ؟ بيتك بعيد
- لأ ورا الحيطة الكبيرة دى على طول ، معاك تانى (قالها ناظرا إلى الغلاف الفارغ بيده)
- دلوقتى لأ ، لكن بكرة زى دلوقت أستنانى هنا و أنا أجيب لك تانى ، و أجيبلك الألبوم كمان
- و النبي ؟ (قالها بفرحة شديدة غير مصدقة)
- و النبى ..... بس تغسل وشك كويس
- طيب ... أنت أسمك أيه ؟
- عبد الرحمن .... و أنت ؟
- مرضان
- رمضان؟
- مرضان
- لأ أسمك رمضان قول أسمك صح
- رمضان
- شاطر يا رمضان
ثرثر رمضان كثيرا عن محسن و عن نوسة التى لن تكسب أبدا لأنها تضربه و تقذفه بالطوب و لا تتركه أبدا يشاهد ألبونها ، أشعلت سيجارة .
- لأ السجاير بتموت
- مين قال كده ؟
- أمى بتقول لأبويا و أخويا الكبير
- أنت خايف لموت
- علشان تيجى بكرة ......









(2)
باب قهوة الأنشراح – عابدين 1991
مناديل

قبل أن تطأ قدمه الثانية أرض المقى ، سمع صوتها الواهن (مناديل ... مناديل يا عمو) نظر لأسفل .. ضئيلة جدا ... طفلة جدا ... أين دميتك يا حبيبتى و منديل أمك لينظف ذلك الأنف المنمنم ، (مناديل يا عمو ) .. فى جيبه الورقة الأخيرة جنيه واحد نصفه لكوب من الشاي و النصف الأخر لصبى القهوة كما تعود أن يجزل له العطأ نظير نداء ، (الشاي بتاع الباشا الكبير) ، ربما قابله على القهوة من يجعله أغنى قليلا ، و لكن لا داعى للأحراج مع صبى المقهى ..أذهبى عنى بعينيك العسلية الرائعة.. و كأنها أحست غريزيا برقة قلبه و ضعفه أمام طفولتها (و النبي يا عمو تاخد واحد) هكذا توسلت و هكذا أخرج جنيهه اليتيم من جيبه .. دعك من صبي المقهى لك يا حبيبتى نصفه و لى نصفه الأخر ثمن كوب الشاى الوحيد الذى أنوى طلبه لحين قدوم من أتوقع قدومه ، (معك فكة ) قالتها و هى تخرج كيسا أخر .
- واحد كفاية
- و النبي يا عمو
- .........
خرج من باب المقهى أو أخرج قدمه التى بالداخل حاملا كيسي المناديل مفكرا أنه قد تكون لهما فائدة أذا لم يأتى من وعده .... و هكذا فكر ....


(4)
الحلمية الجديدة – 2003
من العين السحرية

رحم الله قوم سكنوا الدور العشرين ، سادس دور بلا مصعد هو العذاب .. لم يعد السن يسمح بالتحامل على الجسد أو أدعاء عدم الأرهاق .. الظلام شديد الوطئة و ضيق السلم يجسد رائحته العطنة .. لا يوجد هنا نهار اليوم كله ليل فقط .. لا تكاد ترى موقع قدمها .. أخيرا الوصول إلى باب الرحمة .. تضغط الزر فيصدر الصوت المتكرون المزعج الذى تكرهه .. الضغطة الأولى كانت خجلة قصيرة ، ضغطة ضيف خجول .. تذداد مدة الضغط على زر الكروان مرة بعد أخرى تقاوم شبح العودة بالصوت المزعج المتكرر .. ظهرت الحيرة على الوجه الوسيم المجعد .. تتوتر حركات جسدها ، تسوي وضح الطرحة المستوية ، تتكئ على قدم واحدة و تستبدلها بالأخرى بعد فترة قصيرة .. تومئ لشخص غير موجود .. تبدو كمن تحدث نفسها
- هو ما فيش حد هنا ؟
- (ترد على نفسها) بيّن مافيش حد
تكاد دموعها تتساقط .. تترك أصبعها على رز الكروان و تستخدم يدها الأخرى فى الطرق بعنف يأس ، يختلط الصوتان بضجة مزعجة .. يفتح الباب فجأة .. ترتمى فى الحضن الذى لم يكن يتوقعها و يتحقق ما كادت أن تيأس منه .. أذ أُغلق الباب و هى بالداخل .