٠٢ يوليو ٢٠٠٧


أكثر من أن يحدث في ليلة واحدة
قصة من مجموعة ع الطريق


يوم عمل مضني عاشه ، أبتسم لنفسه و هو يصعد سلالم بيته أخيرا سينعم بدفء المنزل كتفه يؤلمه قليلا فقد ترك نافذة السيارة مفتوحة طوال الطريق من وسط المدينة إلى الضاحية البعيدة التي يسكنها خاف أن ينام بينما السيارة سائرة فعلها مرة نتيجة الإرهاق الشديد بعدها لا يغلق النافذة المجاورة له أبدا مهما كانت البرودة ، دق جرس الباب كعادته لا يستخدم المفتاح يحب استقبال طفليه له و صياحهم ( بابا جه ، بابا جه) ، أنصت لم يسمع الصياح ، أبنته الكبرى سألت من خلف الباب ( مين ؟ ) رد عليها (أنا بابا) أفتحي .
قبل أبنته قائلا (أمال فين أخوكي ؟) ، نظرت الصغيرة في اتجاه غرفة الأولاد و لم ترد ، خرجت زوجته مصفرة الوجه ، تبدو باكية
-أنت فين من الصبح ، موبيلك لا يرد و تليفون الشركة لا يرد أيضا.
، تذكر سماعه لتليفون المكتب أكثر من مرة و لم يرد هو أو أحد من زميليه الساهرين معه ، نظر إلى الموبيل بيدو أن شحن البطارية قد نفذ ،
- فيه أيه ؟ (قالها غاضبا فلانت لهجة الزوجة كثيرا )
- -الولد تعبان من أول الليل ، جاتله حكاية ضيق التنفس دي تانى
- أديتيله البخاخة
- بصيت عليها لقيتها مدة صلاحيتها أنتهت ، أصله بقاله فترة كبيرة ماجتلوش
- الله يخرب بيتك يا شيخة ، هتفضلى طول عمرك مهملة ، أحنا مش جايبنها مخصوص علشان الطوارئ ، يعنى لازم تبصى عليها كل شوية ، أمال لو كنتى بتشتغلي ، كانوا العيال ماتوا ؟ .
دخل مسرعا ، هاله منظر أبنه أنسلت الدموع من عينيه و أرتعش جسده كله ، لا يتحمل آي مصاب في أطفاله قالت له أمه مرة (أجمد شوية أنت أبوهم مش أمهم ) ، أخذ بالطو الولد ووضعه عليه و ألبسه الحذاء تقدمت زوجته تساعده لما لحظت رعشة يديه الشديدة فنهرها ، وضع بطانية صغيرة على الولد و حمله
- خلينى أمشى يا بابا لحسن يقولو علي بيبي كلاس
- ما تخفش يا حبيبي ، ما فيش حد الناس كلها نايمة ، و حط وشك فى كتفى ماحدش هيعرف أنا شايل أيه
دفن الولد وجهه في كتف والده ، أطمئن قليلا أن أبنه ما زال واع للأمور و لم يدخل في المرحلة القلق .
بينما كان يدخل الولد السيارة سمع أبنته
- بابا أستنى ، ماما بتقول لك خذ الروشتات القديمة معك
- أحدفيها بسرعة ، و قولي لماما تحطلي الزفت فى الشاحن
كانت الساعة تجاوزت الحادية عشرة قليلا ، تجاوز موعد عيادة طبيب الأطفال الذى يتعاملون معه القريب من البيت ، فلا مفر من الذهاب إلى المستشفى ، ركب السيارة و نظرا مبتسما لولده و هو يربط له الحزام ، بدء ينسحب اللون الأزرق من بشرته بمجرد تعرضه للهواء النقى
- غطى رأسك كويس يا حبيبي علشان هنمشى بسرعة
- أحنا ريحين فين ؟
- عند الدكتور
- مش عاوز الدكتور اللى بيحط دبوس فى أيدي ( قالها باكيا)
- ما تخافش ، هأخليه يحطه فى أيدي أنا ( رد الأب باكيا أيضا).
وصل المستشفى بسرعة رغم بعدها عن المنزل فقد كان الطريق شبه خاليا ، صعد مسرعا حاملا الولد ، كالعادة أنتظر في الاستراحة بالرغم من عدم وجود مرضى غيرهما ، طمأنه الطبيب و وصف جلسة تنفس و حقنة و دواء ، رجاه أن يتغاضى عن الحقنة (هى دي اللى هتريحه ، أو تسيبه هنا علشان لو جاله ضيق تنفس تانى ) فوض أمره لله ، أنغرزت الأبرة فى يد الولد و قلب الأب ، ألمته جدا حتى أن الممرض سأله أن كان بخير لما وجده يضغط بيده علي صدره ، ظل الطفل يبكى و يضرب أبيه بيديه ( أنت مش طيب ، أنت قلتلى مافيش دبوس) و الأب يبكي بشدة ( حقك علي يا حبيبي تعال نشتري حاجة حلوة ) قال له الممرض ( مش كده يا بيه ، أمسك نفسك دي حاجة بسيطة ) .
عادا إلى البيت تحسنت حالة الولد كثيرا و بدا راغبا فى النوم ، أبتسم لزوجته
- حقك علي
- معلش أنا عارفة حالتك لما حد فينا بيتعب ، أخوك أتصل بيك على الموبيل
- عاوز أيه ؟
- مش عارفة بس عايزك تكلمه ضرورى ( طلب الرقم بينما مازال يخلع ملابسه )،
- أزيك يا أحمد
- الله يسلمك أزيك أنت
- تمام ، الحمد لله ، بس عبد الرحمن تعبان شوية
- ألف سلامة ليه ، بتروح لأبوك ؟
- و الله بقالى يجي أسبوعين ما بروحش ، مطحون فى الشغل
- حاول تروحله ، أنا أتصلت بيه أمبارح و كان شكله تعبان جدا
- ما هو اللى معاند و مش عايز يبيع شقته و يجي يأخد شقة جنبى
- المهم ، أنا عايز منك خدمة
- أؤمر
- تروح لأحمد نبيل ، عارف بيته ؟
- أيوه
- تروحله النهارده ضرورى علشان ليه عنده فلوس ، و هو مسافر دبي بكرة الصبح و هيرجع بعد كام شهر
- بس أنا لسه راجع من الشغل و مرهق أوي
- معلش ( قالها راجيا) أنت عارف المدام على وشك ولادة و أنا محتاج كل قرش
- حاضر ، هو عنده كام؟
- تلت تلاف و خمسميت جنيه
- و هيدفعهم كلهم أبن الـ .......... و الا هيقرفنى
- لأ و النبي ، أوعي تتعصب عليه ده أنا ملصمه ، و أنت لما تقوم فى شرك ربنا يستر
- يعنى أخد اللى يديهولى و أسكت
- أيوه بس عرفه أنه لسه عنده كذا
- ماشى
- و أنتم مش هتنزلوا من شرم بقى علشان الولادة
- يا عم المستشفى هنا أنضف من القاهرة ميت مرة
- الله ، طيب و أهل مراتك
- ينصرفوا ، أنا ما عنديش أجازات علشان أنزل ، اللى عايز يجيلنا أهلا و سهلا
- ماشى ، ربنا معاكم ، هبقي أبعتك الفلوس فى السوبر جيت ، بس مش قبل يوم الجمعة أو السبت
- لا بلاش السوبر جيت ، أعملي بيهم أيداع فى حسابي فى الـ سي أى بي
- و الله أحسن ده حتى جنب الشغل ، يبقى بكرة هأعملك الأيداع على طول ، خد بالك من مراتك و حاول تمشيها شوية فى الأيام الأخيرة دى بيبقي المشي مفيد
- حاضر ، يا الله ، لا أله الا الله
- محمد رسول الله
كانت زوجته قد جهزت المائدة أثناء مكالمته لأخيه ، نظر إلى الطعام و شم رائحته ، كان بالفعل جائع ، نسى في زحام العمل إن يأكل شئ طوال اليوم ، من الصباح على الإفطار البسيط الذي تعود عليه ، و ضع قطعة صغيرة من اللحم فيه فمه ، خلع جاكت البدلة و طلب من زوجته البالطو الثقيل .
- أنت نازل تانى
- أيوه مشوار صغير لأحمد
- ده أنت شكلك على الأخر
- معلش ، خمس دقائق
- طيب كل الأول و الأكل سخن
- لأ ، لو كلت هأتقل ، التليفون شحن
- شوية
- طب هاتيه
ذهب إلى مشوار إخيه كان لا يحب التعامل مع هذا المدعو أحمد نبيل ، برغم من معرفتهم الوطيدة الممتدة لأكثر من عقدين من الزمن ، فهو بطبعه لا يميل إلى من يتفاخر بنفسه و بأنجازاته دائما و كان يسميه أحمد قارون ، ألا أن خفة دم أحمد قارون كانت هي ما يخفف عنه وطأة التعامل معه ، وقف بسيارته أمام المنزل ، و طلب رقم أحمد نبيل ، مرة و مرتين و ثلاثة مرات و الجرس يستمر لأخره و لا مجيب ، قرر أن يحاول محاولة أخيرة قبل أن يذهب ، رد أخيرا صوته يبدو نائما
- مين ؟
- أنا ، عمرو البيومي، أزيك يا قارون
- أه ، هو أنت ، أيه يا عم أنا قعدت مستنيك من الصبح
- معلش كان عندي شغل
- أكيد ما هو الشغل عند الناس كده ، أحسن حاجة تشتغل عند نفسك
- أه
- فاكر أنا قلتلك كده من كام سنه ، كان زمانك دلوقتى عندك شركتك
- بقولك ايه يا عم قارون ، مش وقته و حياة أهلك ، فين فلوس الواد
- طب ما تطلع ، الجو برد مش هأقدر أنزلك
- ماشى يا بن .......
صعد إلى الدور الخامس ، تخدرت ركبيته بفعل الأرهاق و البرد ،( المصعد لا يعمل بعد الثانية عشر ) لافته معلقة على باب المصعد و موقعة من رئيس اتحاد المُلاك ، الله يخرب بيت الاتحاد علي بيت المُلاك
- وجد الباب مفتوح فتحة صغيرة و أحمد ينظر من الداخل
- أدخل بسرعة
- أيه خايف هواء الدفاية يخرج بره
- هو أنت لسانك ده كرباج ماسكه أعمي ، أدخل يا عم
أخرج مظروف من جيب الروب و ناوله له ، جلس و أخذ في العد ، عزم عليه أحمد بمشروب فرفض ، لأنه لا يستضاف عند يهودي .
- كده ناقص ألف جنيه
- يا عم أنا مفهم أحمد أخوك ، أبعتله أنت دول بس
- و الله أحمد ده غلبان أنه بيتعامل مع يهودي زيك ، أنت رايح دبي بجد و لا رايح زيارة لحائط المبكي
- و الله لولا أخوك كنت ( و جز علي شفتيه )
- أخوية برضه
- أيوه أخوك و طولك ووزنك طبعا
- (ضحكا عاليا ) يالله تروح و تيجى بالسلامة ، و ياريت ما تجيش خالص ، عشان مليتوا البلاد
- يا عم دي دبي ، يا رب أعرف أعيش هناك و أبقي أبن جزمة لو فكرت أرجع
عاد إلى منزله الإرهاق كاد أن يحنى ظهره ، صعد السلالم ببطء شديد يكاد يحمل قدمه بيده ما بين درجة و أخري، قبل أن تمتد يده للجرس ، سمع رنة تليفونه أخرجه من جيبه بيد و بالأخرى دق جرس باب منزله ، فتحت زوجته سريعا ، فقد كانت المسكينة تنتظره خلف الباب تجاهد النوم الذي يبعثه دفء المنزل.
- أيوه مين
- أنا أحسان النقراشى جاركم يا عمرو في عابدين ، أنت مش فاكرني
- أيوه طبعا ، أزيك يا عمو ، أنا أسف بس الصوت و النمرة غريبة علي ، أزي حضرتك و طنط ، و حازم و باسم و البنات ، و الله وحشتونى جدا .
كان يتكلم سريعا مداريا ارتباكه من هذه المكالمة الغريبة ، في مثل هذه الساعة المتأخرة ، نظر إلى الساعة كانت تقترب من الثانية صباحا ، شك أن موضوع المكالمة يتعلق بوالده و لكنه طرد الخاطر بعيدا .
- و الله يا بنى عندي أخبار مش كويسة
- خير يا عمو ( أيقن أن الأمر يتعلق بوالده)
- باباك ، وجدناه واقع أمام باب شقتنا في الدور الأرضي ، و فاقد الوعي
- أمتي حصل ده؟
- بعد العشاء ، و من ساعتها و أنا و أولادى بندور على نمرتك أو نمرة أخوك لحد ما لاقينها عند طنط أعتدال
- طيب شافه دكتور
- لأ يا بنى أحنا منتظرنكم ( قالها فيما يشبه التقريظ )
فهمت زوجته ما يحدث من سير المكالمة ، لم تسأله ، أسرعت إلى الطعام و صنعت شطيرة ليأكلها في الطريق ، رفض أخدها ، كان يقوم باستبدال الحذاء الجلدي بأخر مطاطي (كوتشى) فقد أحس بقدميه تتورمان ، وقفت أمام الباب بكوب عصير و استحلفته بالله أن يشربه قبل الذهاب ، شربه مسرعا .
- خدي بالك من عبد الرحمن ، و أقفلي الباب الحديد و نامي مع الولاد
- حاضر ، خد بالك أنت من الطريق ، خير أنشاء الله ، ما تشوقش بسرعة
- حاضر
مضت أفكاره متلاحقة كان الطريق طويلا و رغبته في الوصول جعلته أطول ، آلاف الأسئلة و الاحتمالات دارت بذهنه ، ماذا سيفعل إذا كان والده قد توفي ؟ ، ما عجز حتى عن التفكير فيه كيف سيخبر أخاه و أخواته البنات ، والده قد تجاوز السبعين ، فكر مئات المرات في اقتراب وفاته ، و لكن التفكير شيء و حدوث الواقعة شيء أخر ، أستيقظ من أفكاره علي صوت سيارة نقل كبيرة بجانبه ، كان السائق يشير إلي سيارته قائلا شيئا لم يسمعه ، تباطأ قليلا حتى بعُد سائق النقل ، مر تاكسي بجانبه و نفتح النافذة اليمين و صاح فيه ( الأنوار يا أستاذ) ، أنتبه أنه لم يضئ أنوار السيارة .
وصل أخيرا إلى البيت القديم ترك السيارة كيفما أتفق فلا داعي و لا وقت للركن جيدا فمن الذي سيذهب أو يجئ فى مثل هذه الساعة ، فتح باب في الدور الأرضي ، وضح جدا أنهم كانوا ينتظرونه ، دعاه الرجل للدخول وجد أبيه ممد على كنبة بالصالة مغطى بعباءته ، لا يحرك ساكنا ، حاول أفاقته ، فنبهه الرجل أنهم قاموا بكافة المحاولات ، بالطبع إلا استدعاء طبيب ، آي قاموا بكل شيء ممكن فعله مجانا ، كان الرجل متشوق لذهاب هذه التهمة من شقته .
- بص يا بنى بدل ما تطلعه فوق نركبه معك العربية و تروح بيه على المستشفى ، أنت حتى لو جبتله دكتور هيقولك أحجزه فى مستشفى ، يعنى مش هينوبك غير بهدلته و بهدلة نفسك فى طلوع ستة أدوار
- طيب ، حاضر
هم الرجل بمساعدة أولاده في حمل المريض ، طلب منهم أن ينتظروه ريثما يحضر بطانية من شقة أبيه فالجو بالخارج بارد جدا ، صعد مسرعا ثلاثة أدوار ثم تذكر أنه لا يملك المفتاح ، فمفتاح شقة والده متروك في البيت ليس ضمن المفاتيح المستخدمة يوميا في البيت و العمل ، هبط مرة أخري ، مد يده تحت عباءة والده ليخرج المفتاح فزع من بروده جسد الرجل ، صعد كما كان يفعل في سن السابعة عشرة الخطوة بثلاثة سلالم ، دخل مسرعا ، أمسك نفسه من الانهيار عندما لاحت صورة والده مع والدته تحت الضوء الوحيد المضاء في الشقة ، هبط بأسرع مما صعد ، سمع أصوات قوم يتساءلون ماذا يحدث؟ فقد نسي أن وزنه تجاوز المائة و خمسون كيلو و القفز على السلالم يثير ما يشبه الزلزال في البناء .
لف والده جيدا بالبطانية و تعاون معه حازم و باسم في حمل المريض بينما والدهما يوجه المسيرة ، تركاه في السيارة و لم يعرض أحدهم الذهاب معه ، كل ما قاله الرجل مجرد تأنيب له و لأحيه لتركهم شيخ كهذا يعيش وحده .
أسرع إلى أقرب مستشفى تذكره ، و كانت مستشفى عامة ، دخل مسرعا ، لم يحدث كما يحدث فى الحلقات الأجنبية ، لم يسرع أشخاص يرتدون يونيفورم لاستقبال المريض و أرقاده على التروللى بينما سماعة الطبيب تعمل على جسده ، الشرطي على الباب أوقفه و نظر إلى السيارة .
- حادثة
- لأ ، ده أبويا و تعب و جايبه علشان يسعفوه
- طب أخد نمرة العربية
- أبقى خدها بعدين يا أبن الـ ........ أنا معي بني أدم بيموت
فعل السباب فيه ما لم تفعله محاولة الابتسامة ، و مراعاة إنسانيته ، فما دمت تجرأت على سب شرطي فبالتأكيد أنت رجل مهم تلك هي الحال ، ترك السيارة و بها والده أمام السلم ، طلب من أحد عمال المستشفى الذهاب معه بكرسي بعجلات ، وقف العامل ينظر حوله معترضا أن الكراسي ليست عهدته و ليست عمله ، أسرع بإخراج ورقة نقدية لا يعرف مقدارها و أن كان احترام العامل أخبره أنها فئة كبيرة ، جعت الورقة النقدية الكراسي عهدة العامل و جزء من وظيفته التي يتقنها ، أسرعا به إلى الطبيب ، كان شاب صغير و لكن تظهر عليه صفات الجدية
- ماله ؟
- مش عارف ، هو والدي بس مش مقيم معاه ، الجيران وجدوه واقع فى الدور الأرضى بعد صلاة العشاء
- هاه ،( قالها و سماعته تعمل فى الجسد)
- بس
- هو بيأخذ دواء معين
- أيوه ، دواء للقلب ، نوع مرتين فى اليوم و نوع بتاع الطوارئ ، أكيد بتاع الطوارئ فى جيبه
- حد أداهوله لما تعب
- لا أظن
ترك الطبيب المريض و أمسك بذراعه و قاده بعيدا عن العامل للممر الخالي من البشر في هذا الوقت
- بص ، أمسك نفسك ، والدك كبير فى السن ، و الحمد لله
- ..............؟
- الحمد لله أنه أتوفى من غير بهدلة و راقدة فى المستشفيات ، و عشان هو راجل طيب أنا هسيبك تمشى بيه فى هدوء من غير ما حد يعرف .
- مات ( قالها بلا صوت تقريبا)
- أمسك نفسك ، أنت لوحدك ؟
تداعي جسده تماما أحس بساقيه مثل العجوة الطرية لا تقدر على حمل جسده الضخم ، سقط أرضا ، جلس الطبيب بجانبه و نهره
- مش بقولك أمسك نفسك
- مش عارف
- يا راجل علشانه هو ، أنت عارف لو سجلته أنه مات هنا ممكن ما تعرفوش تستلموه غير بكرة المغرب
- يا الله ، قوم على حيلك و خده و خرجه من بيته معزز مكرم
ساعده الطبيب مع العامل في أعادة و ضعه في السيارة ، شكر الطبيب و شد علي يده بحرارة ، وصاه الطبيب أن يركز في قيادة السيارة كأنه بمفرده حتى يصل بالسلامة .
أحتار أين يذهب هل يأخذه لمنزله ، أم يعود به للبيت القديم ، أغلب جيران البيت القديم انقطعت صلته بهم ، فليذهب إلى بيته فربما تعينه زوجته على هذا العبء ، مضى يشق الطريق و الأفكار تتوالى و التساؤلات ، كيف سيخبر أخوته ؟ ما هي الإجراءات الواجبة في هذه الحالات ؟ عند وفاة والدته تولى أبيه المسألة كلها ، و أقاربهم في البلد ، الكل سيلومه علي ترك الرجل يعيش وحده ، لا أحد يعرف أنه قبل قدميه ليترك الشقة و يعيش معه و لكنه رفض ، لن يصيب أخيه الأصغر آي جزء من اللوم فهو يعمل خارج القاهرة ، تاركا عبء الأب العجوز و ثلاثة أخوات على كاهله وحده ، تاهت به الأفكار في عالمها اللانهائي ، تسأل ماذا يحدث لي ؟ وجد نفسه يخاطب الله بصوت باكي و صارخ لما كل هذا ؟ فيما أخطأت ؟ و هل فعلها الله مع الكافرين؟
- هل عاقبتهم بكل هذا ؟
- يكفرون بك
- يعصونك
- يستحلون ما حرمته ، فكم منهم فعلت به ما تفعل بي ، قل لي
- ماذا تخبئ لي في جعبتك بعد لهذه الليلة؟
- أليس كل هذا كثيرا علي ليلة واحدة؟
أرتطم جسم بالسيارة المسرعة ، توقفت السيارة بصوت صارخ ، خرج مسرعا محاولا أن يري ماذا أصطدم به في الظلام ، كان الطريق خاليا تماما حتى سيارات النقل المعتادة توقف مرورها فى مثل هذا الوقت فقد أوشك الفجر على الأذان ، نظر للخلف على جانب الطريق يرقد جسد أنسان ممد أسرع نحوه ، شاب صغير يبدو كطالب جامعي ، حاول أفاقته ، صرخ فيه و خبط علي صدره ، كاد الولد يشبه أخاه الأصغر شبه كبير ضعيف البنية مثله مع صلع خفيف و نظارة طبية ، و وجه مثلث ، أحتضن رأسه و نظر إلى السماء قال بهدؤ شديد و باكي
- أنا أسف
- ماتزعلش
- بس أرشدنى أعمل أيه
- أسيبه و أمشى
- أخده معي و أحاول أسعفه
- طيب و اللى معي فى العربية ده أروح بيه فين
- أنا لوحدي و معي ميت و مصاب ، أو ممكن يكون هو كمان ميت
- خلاص عرفت أنك تقدر تعمل في أكتر من كده ، بس علشان خاطري ، و علشان خاطر الميت اللى معى ، و علشان خاطر النبي بلاش الواد ده يموت ، آى حاجة ألا أنى أكون السبب فى موت أنسان
- أرجوك أسمعنى المرة دي ، أوعدك مش هعترض تانى
- بس قوللى أعمل أيه
صدمت وجهه ريح هادئة فشم فيها رائحة عطرة ، لم تمر بأنفه سوي مرة واحدة من قبل ، حينما صلي الجنازة على أمه منذ خمس سنوات ، وضعت تلك الرائحة في جسده قوة جديدة ، تلاشى تعب الإرهاق و تعب الصدمة ، أنتبه إلى أنه أصبح قريب جدا من بيته ، قرر أن يحمل معه الشاب و لا يتركه لمصيره ، سيأخذه معه و يترك والده في البيت ثم يذهب بالشاب للإسعاف ، حمل المصاب و أجلسه بجانبه ، و خلع معطفه ووضعه عليه ثم جلس مكانه ، تذكر و هو يغطى رأس الشاب بالمعطف مشهد صغيره في بداية أحداث الليلة فقال للشاب بصوت مسمع
- متخفش مش هأسمح لهم يحطو الدبوس فى أيدك
أسرع إلى منزله ، سمع صوت الشاب يتأوه واهنا ، ثم تحرك ، حمد الله أنه لم يمت
- أنت كويس
- أيه اللى حصل
- الظاهر عربية خبطتك
- لأ ، أنا ما كنتش بعدي الشارع (ثم أمسك بدماغه)
- أنت حاسس بأيه
- حاسس بوجه جامد جدا فى جنب راسي .
- فاكر أيه اللى حصل
- أيوه ، أنا كنت واقف على جانب الطريق مستنى مواصلة تعدى ، و بعدين أمامي سيارة نقل كبيرة و سمعت صوت طرقعة و بعدين مش عارف
تذكر أنه قبل الاصطدام كان يسير خلف سيارة نقل محملة بالظلط ، فهم أن ظلطة أفلتت من السيارة فصدمها هو بسيارته رادا إياها إلى رأس الشاب المنحوس
- جت سليمة الحمد لله ، أنت شايف كويس
- أيوه
- بص ، هأروح بس والدى ، نايم أهه ورا تعبان شوية و بعدين أوديك الأسعاف ، لو حاسس بألم أسند رأسك و غمض عينيك أحنا خلاص أهه وصلنا
كانت ملامح النهار قد بدئت تلوح ، قابل أحد جيرانه أمام العمارة، عرض الجار المساعدة لما وجده يحمل أبيه ، طلب منه أن يأخذ السيارة و يذهب إلى الإسعاف بالولد المصاب ، نظر جاره إليه في شك ، أسرع بإخراج رخصته و رخصة السيارة .
- لو طلبوا بيانات أديهم دول ما تخافش أنا مش خابطه
أخذ الرخص و ذهب مسرعا
وجد زوجته تنتظره على مفسحا له طريقا ليدخل بحمله ، وضعه علي السرير و أخبر زوجته بالأمر ، و طلب منها التماسك لأنه تجاوز الانهيار منذ فترة ، طلبت زوجته صديقة لها هي و زوجها طبيبين و يقيمان في العمارة المجاورة لهم ، طلبت منها إن يأتي زوجها لعمل شهادة وفاة أو أرشادهما عن كيفية التصرف ، أتى الرجل مسرعا دخل على الميت و عمل بسماعاته فى الجسد .
- هو مين الحمار اللى قال لحضرتك أنه مات
- دكتور فى مستشفى .....
- الله يخرب بيته ، الراجل عايش بس نبضه ضعيف
كانت فرحته طاغية فرفع يديه إلى أعلى على امتدادهما فاردا أصابعه كأنه أراد أن يسلم على ربه أو يحتضنه و لم يستطع تحمل الانفعال صاح بصوت صارخ حتى (شكرا جدا يا رب) ثم فقد الوعي ، أفاق على صوت الطبيب و صوت زوجته .
- إيه يا عم أنت بتحب باباك أوي كده ، أحنا هنسعف مين فيكم
- هو بجد ما متش يا دكتور
- أيوه بس بسرعة جدا ، تجيب الحقن دى ، أنا هأروح أصلى الصبح لحد ما تجيبه و أجي أديهاله
نزل إلى الشارع مسرعا مع الطبيب ، تذكر أن سيارته مع جاره ، وقف محتارا ، و كأن الله يأبى ألا أن يريه مقدار عظمته ، إذ مر تاكسي من أمامه ، لم يصدق عينيه تاكسي في هذا الوقت المبكر من الصباح يمر من أمام بيته في تلك الضاحية التي قلما أن يمر بها تاكسي حتى في وقت الذروة ، أوقفه ، فنظر له السائق متسائلاً
- لو سمحت حتودينى بس ندور على صيدلية فاتحة علشان أجيب دوا مهم
- أتفضل
دخل إلى السيارة و ما أن تحرك السائق بالسيارة
- و الله حضرتك أبن حلال ، أنا جايب زبون من المطار لهنا دلوقت و كنت ناوي أروح ، أخويا ساكن هنا بعديكم بكام شارع و بيشتغل فى صيدالية فى نفس المنطقة و معاه مفتحها ، أنا كنت مروح لأنى مكسوف أروحله على الصبح كده ، مع أنى نفسي أشوفه ، بس أهو النصيب بقى
- يعني يوافق يفتح الصيدالية و يدينى الدوا دلوقت
- أيوه طبعا ، ربنا بيقول أغاثة الملهوف واجب علينا
- الله يكرمك ، أنت تاكسي و لا ملاك ربنا باعتهولي
- بس بعد أذنك أطلبهولي على موبيلك
كاد يصيح مرة أخري شاكرا ربه و لكنه خشي أن يظنه السائق مجنون ، و أن كان الجنون رد فعل بسيط لما مر به فى ليلته هذه و بالفعل أسرع أخيه إليهم و جاءهم بالدواء و عاد به السائق الملاك إلى بيته ، عرض عليه مبلغ كبير فرفض أخذ أكثر من مبلغ التوصيلة طالبا منه إلا يحرمه الثواب عند الله .
وجد جاره ينتظره مع الشاب المصاب و قد وضعت ضمادة على رأسه و كان مبتسم و قدم له البالطو شاكرا ، ثم طلب رقم تليفونه لأنه يشرفه أن يكون صديق لمثله فلو كان تركه على الطريق فمن يدرى ماذا كان يمكن أن يحدث ، طلب من جاره أن يوصل الشاب إلى أقرب مكان مواصلات فرحب الجار ،و لكن الشاب أبي
- أنتم كتر خيركم لحد كده
- أصل هنا المواصلات بعيدة
- لأ كفاية كده ، خلاص الدنيا نهار و أنا هأتصرف ، ربنا يقدرنى أرد جميلك
- أدعى لأبويا يقوم بالسلامة
- أنشاء الله عملك يقعد لك فيه
صعد مسرعا ، وجد طفليه قد استيقظا ، يقفان بجوار جدهما الذي يعبدونه ، كان طفله الصغير يشكو للجد
- شفت يا جدو بابا الجاموسة ساب الراجل يحط الدبوس في أيدي
- يا عبيط جدو نايم مش سامعك (قالت أخته)
- ما تصحي بقى يا جدو علشان نروح تصلى الجمعة
- يا عبيط أنهارده الحد يوم الجمعة كان قبل أمبارح
جاء الطبيب ، و أعطى الشيخ حقنة كبيرة بينما الولد يصرخ لأن جده هو الأخر قد وضع الدبوس فى يده ، وصف الطبيب لزوجتي كيفية إعطاءه الأدوية و مواعيدها ، سألته هو عن العلبة الأخيرة
- لأ دي لجوزك يأخد منها مرتين لمدة ثلاثة أيام
- ليه؟
- واضح أنه أتعرض لانفعال شديد جدا ربنا يكون في عونه موقف صعب
مشى مع الطبيب حتى الباب حاملا صغيره محاولا تهدئته بينما تنهال اليد الصغيرة المريضة بوهن على وجهه
- ليه سيبت الراجل يحط الدبوس فى أيد جدو
- ما تزعلش يا بودي ، يا ريت أقدر أخد الدبابيس كلها ، بدلكم كلكم
(تمت)

البدري
2/7/2007

هناك ٩ تعليقات:

Unknown يقول...

أكتر حاجة لفتت نظرى فى البطل ده أنه مابيحبش يضرب الجرز عشان يسمع كلمة ( بابا جه ) ههههههههه
يمكن يكون فى أبهات كده بصحيح يمكن كل شء جايز

badry212 يقول...

الأستاذة / عاليا حليم
لأ هو بيضرب الجرس و ما بيحبش يفتح
بالمفتاح ، يعنى بيفضل يستخدم الجرس علشان أولاده يستقبلوه بالصيحة المعتادة (بابا جه ...بابا جه) كأنهم كان لديهم شك أنه لن يأتى ثانيا ،
و بالمناسبة فيه أبهات كتييييييييير كده و أهيف من كده كمان فيما يتعلق بعلاقتهم بأطفالهم ، مثلا واحد أعرفه كان لما يكون مسافر و يتصل بزوجته يطلب منها تضايق أبنه الرضيع أو تقرصه علشان يؤؤله شوية فى التليفون
و شكرا على المرور
البدري

Unknown يقول...

بلاش حكاية أستاذة دى قلتلك قبل كده و بعدين أنا كنت مستغربة من حنية الأب ده مش من هيافته أنت ليه معتبرها هيافة يا ريت كل الأبهات كده

Unknown يقول...

يا ريت كل الأبهات زى البطل بتاعك ده يخافوا على عيالهم و يجروا يدوروا على فلوس عشان علاجهم بدل ما يرموهم فى الشارع لما يزهقوا من مصاريفهم أو حتى يعايروهم ليل نهار انهم متكفلين بعلاجهم فوق أكلهم و شربهم

badry212 يقول...

أستاذة / عاليا
طبعا مش كل الأباء بمثل هذا القدر من الحنان ، و لكن أظن أغلب الأباء هكذا ، فعدد أطفال الشوارع مثلا أكيد لا يتجاوز نسبة ضئيلة فى الألف من عدد أطفال البلد كلهم يعنى فى مقابل 997 أب محترم 3 أب مش محترم ، و لكن للأسف الرديء دائما هو ما يظهر علي السطح ، و الكلام يطول فى هذا الشأن

البدري

البنت الشلبية يقول...

السلام عليكم

هيا القصة دى حقيقة ولا من تاليفك
عامة هيا فيها عبرة حلوة وفيها خير
لكنها طويلة شوية
سلامى

badry212 يقول...

أستاذة / شلبية
عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
أشكرك جدا علي أهتمامك و صبرك لقراءة القصة الطويلة شوية ، أما عن سؤالك فأغلب أعمالي (بوجه عام و ليس هذه القصة فقط) به جزء من الواقع و جزء من الخيال .
فالقصة شخصيات و حدث قد يكون الحدث حقيقي و الشخصيات خيالية و قد يكون الشخصيات حقيقية و الحدث خيالي .
و لكنها بالتأكيد ليست مذكراتى
البدري

Jana يقول...

اشكر الصدفة التى قادتنى لمدونتك
عرفت انك من قراء نجيب محفوظ بعد ان قرأت قصتك وقبل ان اطلع على البروفايل الخاص بك
استمتعت كثيرا بقراءتها
خاصة انى اعشق القصص الطويلة
التى تتعايش معها فتشعر انك بطلها
احييك بشدة على سردك الجميل
وقصك المبدع
واهنىء نفسى على اكتشاف مدونتك
تحياتى

badry212 يقول...

أستاذة / Jana
ألف ألف شكر علي كلماتك المشجعة الرقيقة ، و طبعا يشرفنى جدا أن أكون من قراء أ. نجيب محفوظ و أن أتأثر به فى محاولاتى القصصية فهو و أستاذ خيري شلبى أعتبرهما أفضل من كتب الرواية العربية علي الأطلاق
و أرجو أن تنال باقى أعمالي أعجابك

البدري